تصدر قريبا رواية بعنوان "الدرج العظيم" للروائى علاء أبو زيد، بالتزامن مع معرض القاهرة الدولى للكتاب، المقرر انطلاقه فى 27 يناير الحالى، حتى 10 فبراير المقبل. لهذه المناسبة ننشر فصلا من الرواية.
يخبط الدكتور عصمت بيده على رأسه
كلهم سفلة.
ما أنا إلا درج مفتوح أن أغلقته تلاشوا من حولى.
حتى أنت ياغادة لا أعرف عنك شيئا منذ أن اغلقت الدرج فى وجهك.
إلى أين تأخذنى قناعاتى؟
هل أنا فى حاجة للهروب إلى بلدتى قبل أن اتورط فى كارثة؟
نعم كنت سعيدا هناك.
مدينتى الخضراء تحيطها الصحراء من الجهات الأربع، لنا بيت كبير ومائة فدان تركها جدى لأبى وشقيقه، كنا سبعة أشقاء وكان أبى يبيع قطعة من الأرض كل عام لكى يلاحق الإنفاق على تعليمنا وجواز شقيقاتى، لم تعد تجارته فى شيلان الصوف قائمة، كانت مزدهرة كصناعة وطنية فى عصر الزعيم حبيب الملايين ومنذ أن أطل علينا خليفته قائد الثورة المضادة على مشروع الزعيم والحياة تسير إلى أسفل، توقفت صناعة أبى وتجارته أمام إغراق السوق بالبديل المستورد الرخيص.
مازلت أذكر جدى الذى أسس لنا هذا الثراء
يحكى لى أبى أن جدى بدأ تاجرا للأقمشة ثم توسع عندما أنشأ مغزلا على مساحة نصف فدان
تعرف على مجموعة من الصعايدة أبناء أسيوط الذين يتاجرون فى الصوف الخام، اتفق معهم على شراء الصوف منهم مقابل كلمة شرف، ربحت التجارة وتوطدت العلاقة بين جدك وأصدقائه الصعايدة وتطورت إلى علاقة نسب عندما خطب جدك لى أمك ابنة كبيرهم لكن كل شئ ذهب مع الريح مع تمكن الرئيس المؤمن من كرسى الحكم.
فى السنوات الأخيرة لجدك رصد بوادر الانهيار كتم حزنه إلا أنه لم يحتمل، كان يستيقظ آخر الليل يطوف وحيدا بلا هدف فى أرجاء البيت الكبير ثم يخرج الى موقع المغزل المهجور يتحدث بكلمات حزينة غير مفهومة،لقد وجدناه فى إحدى الليالى القمرية ميتا هناك.
توقف الدكتور عصمت عن خبط رأسه بيده على صوت جلبة فى الصيدلية، طفلا مدحت يدخلان الصيدلية وهما يبكيان بصوت مرتفع
قال الطفل الأكبر وهو مازال يبكى:
أمى طردتنا من البيت ياعم عصمت.
طمأن الدكتور عصمت الطفلين ثم أحضر لهم طعاما وطلب منهما أن يناما فى ركن الصيدلية البعيد المظلم.
ولكن أين مدحت؟
هكذا سأل نفسه
انتبه إلى أن مدحت لم يدخل الصيدلية منذ ثلاثة أيام ثم ردد بصوت مرتفع
ماشي لما أشوفك يامدحت الكلب.
امتلأت الصيدلية بصوت الفجر.
نفض أرهاقه واتجه حيث ينام الطفلان ايقظهما بصعوبة فكر أن يغلق عليهما الصيدلية ويتركهما نائمين لكن جال فى خاطره أن ماسا كهربائيا قد يحدث فتحترق الصيدلية ويحترق الطفلان.
اسند الطفل الأصغر رأسه على كتف شقيقه الأكبر وجرا قدميهما إلى الشارع الواسع وأصلا جر أقدامهم حتى الشارع الرئيسى اوقفا ميكروباص انطلق بهما لميدان التحرير.
الدكتور عصمت لا يرغب فى الوصول إلى البيت ينطلق فى الشوارع أملا فى أن يضمن عند ذهابه للبيت دخول زوجته فى نوم عميق
ها هو يخوض بسيارته فى ذكريات انفجرت فى صيدليته عندما أطلت عليه غادة لأول مرة كان قد مضى على بداية العام الجامعى الجديد حوالى شهر وبات الجميع يعرف الجميع ...هى وحدها التى التحقت متأخرة وكان الصيف متوحشا وكانت ترتدى ملابس صيفية متحررة من قيود ملابس البنات المحافظات وكان النسيم الذى جاء فى غير موعده يحتفل بها بأن يتطاير شعرها الأسود الناعم فوق جانب من عينيها كلما توقفت أو واصلت السير باتجاه مكتب شئون الطلاب.
حضورها الشخصى أغرى زميلاتها بالالتفاف حولها واستكشاف ما وراءها
انوثتها الطاغية جعلت كل طالب يستغرق فى رسم السيناريو الذى لا يخيب من أجل أن يقترب ولو خطوة من هذه الحورية النارية، هم فقط طلاب الأنشطة الترفيهية الذين نجحوا فى أدخالها إلى عالمهم.
مع الأيام توجست منها البنات المحافظات وبدأ الطلاب التقليديون فى اغتيالها بالإشاعات لكنه لم يكن منهم ولا كان من أصحاب اللحى ذوى القمصان الطويلة والبنطلونات القصيرة الذين أصبح لهم اليد العليا فى صبغ الحياة الجامعية بتصوراتهم الدينية والحق فى فرض العقوبة التى يقررها شرعهم إذا ما عاندهم طالب أو طالبة.
كان هو من مجموعة صغيرة لا تعلن عن نفسها مازالت تؤمن بأن اليسار يمرض ولا يموت
الموبايل يرن ولا يسمعه
يرن مرة ثانية ثم ثالثة، أخيرا ينتبه ويرد
- عصمت....عصمت....أنا سمير.....أرجوك أنقذنى
أنا محجوز فى القصر العينى ....الأطباء اتفقوا على قطع قدمى، يقولون لا حل آخر
يقولون أيضا أن كبدى مهترئ من الأدمان وأن كليتى اليسرى لا تعمل وأننى لابد من الخضوع لجلسات غسيل للكلى.
استمع الدكتور عصمت لأنين صديقه سمير،
لم يرد.. أغلق الموبايل،
راح يغمغم ...لم تسمع كلامى ياسمير
وداعا ياصديقى....الله يرحمك.
أيقنت أنه لن يقترب.
اقتربت هى.
توهجت الصداقة بينهما وبدأت الجامعة تتحدث عن عصمت طالب الصيدلة الذى اختارته غادة ليكون صديقها الأقرب لكنها شعرت بأن عصمت لا يبادر بشئ أعمق من الصداقة فيما كانت هى متأهبة له تماما.
قررت أن تتقدم خطوة للأمام:
- عصمت لو سمحت ...أنا عندى مشكلة.
كان سعيدا بمبادرتها فى اللجوء اليه لكنه تمالك:
- خير....أنا تحت أمرك.
- ولد بيطاردنى فى كل حته فى الجامعة ...بيقول أنه بيحبنى ويتعمد أن يوقفنى فى الأماكن الهادئة محاولا اقناعى بأن اتفهم حالته وعندما اتركه دون اهتمام يمسكنى من يدى ويصرخ بهستيريا
مش هسيبك ياغادة وبكره تندمى ...أنا وراكى والزمن طويل بس هو صعبان عليا.. دايما أشوفه واقف لوحده فى عز الشمس
كان يختار الأماكن التى يتوقع أن أمر عليها وكان يبدو عليه فى الأيام الأخيرة الهزال والحزن.
وهى تتحدث توقفت فجأة ثم صرخت:
- عصمت...عصمت....الولد هناك بيراقبنا
التفت عصمت ناحية اشارتها رأى شبح هزيل يمرق ويختبأ وراء الأشجار انطلق وراءه لحق به ولما تأكد من ملامحه أصابه الذهول.
لقد كان الولد الذى ألح عليه عارضا صداقته وأمام إلحاحه قبل عصمت صداقته وعرف منه أنه ضحى بعامين دراسيين من كليته وأنه التحق بكلية جديدة لأنه اكتشف أنه أخطأ فى الالتحاق بالكلية القديمة
كان يقول لعصمت:
لست حزينا على ضياع عامين من عمرى فأنا الآن سعيد بعد أن التحقت بكليتى الجديدة.
لم تكن الكلية الجديدة إلا كلية غادة.
عاد عصمت شارد الذهن إليها، كان متيقنا أن هذا الولد الهزيل الحزين ضحية غرامه لغادة وأنه مجنون ولن يتوقف عن مطاردتها وأنه قد يلجأ إلى طرق جديدة لا تخطر على بال.
رصد المغرمون بغادة وقائع هوس الولد الهزيل الحزين دائما وبات معروفا بين الطلاب بمجنون غادة.
منذ هذا اليوم وغادة وعصمت لا يفترقان
كانت تهمس له مع بداية النهار الجامعى
أنا فى حمايتك.
لكن كان هناك فى الغرف المغلقة مهووسا آخر بغادة، كان يعرف أدق تفاصيل حياتها فى الجامعة وفى مدينة الطالبات وخارج الجامعة وكان ينتظر الوقت المناسب الذى يعطى فيه أمرا للحرس الجامعى بأن يصطحب غادة ليسلمها له فى مكتبه المخيف.
حصل عصمت على موافقة أصدقائه اليساريين بدخول الانتخابات الطلابية، جرت وقائع الاتفاق فى حجرة ضيقة تتبع بيتا من طابق واحد، وضعت المجموعة خطة الدعاية والتى تراهن على الكتلة الصامتة من طلاب وطالبات الجامعة وجاء على رأس الخطة ترويج حق الطالب فى الحصول على نصيبه العادل من ميزانية الانشطة الطلابية والتصدى للخطاب المتطرف للجماعات الاسلامية وتحريض الطلبة على الوقوف ضد ظاهرة تجارة اساتذة الجامعة فى المذكرات الجامعية ونشر قيم التنوير والاستنارة فى جنبات الجامعة مع التأكيد على الغاء لائحة السادات الطلابية وإبعاد الحرس الجامعى من حرم الجامعة.
عاهدت مجموعة الأصدقاء عصمت أن تبذل أقصى ما لديها فى الوقوف إلى جانبه فى مهمته الصعبة وثمنت جرأته فى التصدى للقيم الرجعية التى هيمنت على الحياة الجامعية واتفقوا على الانتشار بهدوء بين الطلبة صبيحة يوم الانتخابات دعما لعصمت.
الطلاب من الكتلة الصامتة الذين تعاطفوا مع البرنامج الانتخابى لعصمت اكتفى أغلبيتهم بالتعاطف ومع بدء وقائع الانتخابات لم يشهد النهار إلا حضورا ضعيفا للمتعاطفين، وحدها غادة التى كانت تسعى فى محاولات مستمية لإقناع الطلبة بالتصويت لعصمت، أيقن عصمت من غياب أصدقائه، لقد غابوا تماما، ودارت المنافسة بين الطرفين المتصارعين كما تدور كل عام
طلبة تمثل الحزب الوطنى مدعومة من الأمن خارج الجامعة، وطلبة تمثل الجماعة الإسلامية المسموح لبعض عناصرها فى المشاركة فى الانتخابات.
ظهرت النتيجة آخر النهار واقتسم الطرفان جميع المقاعد وعندها ظهر اصدقاء عصمت الغائبون.
كان الاتفاق يسمح لعناصر من الجماعة الإسلامية فى دخول الانتخابات مقابل اقتسام المقاعد وأن يشغل أحد عناصر الحزب الوطنى مقعد رئيس اتحاد الطلاب فى كل كلية.
استقبل عصمت وغادة النتيجة فى بادئ الامر بالدهشة تطورت الى ابتسام لتتطور الى قهقهة
قال عصمت وهو يضحك:
كلهم خانوك ياعصمت إلا غادة.
على غير العادة بدأت السماء تمطر، انكمش عصمت وغادة تحت الأشجار العالية ثم اتخذا قرارا بأن يواجها المطر،قفزا بعيدا عن الشجر سارا فى منتصف الطرقة المؤدية إلى مدينة الطالبات، زاد المطر المنهمر على شعر غادة من سحرها وتدفقت انوثتها فى وجنتيها وعينيها وضحكتها، كانا فى طريقهما إلى المدينة يدندنان أغنية حاجة غربية، تقمص عصمت دور عبد الحليم وتقمصت غادة دور شادية
وفيما هما يغنيان ويضحكان
كان هناك من يجلس فى مكتبه المخيف يتخذ قرارا باستدعاء غادة وعصمت على وجه السرعة.