ذاك صديق عرفته فترة من الزمن أثناء الصبا , بخلاف طوله الفارع ووسامته الملفتة للنظر , فقد امتلك قدرة كبيرة على تكوين الأسرار , فدائما لديه سراً يخشي عليه من الهواء الطائر ونسمات الفجر الرقيقة .
كلّما كوّن سرّاً جديدا , إلاّ وهُرع إليّ , متلفّتا حوله خشية أن يراه أحد , وجلا خوفا أن يسمعنا مار بجوارنا , ينتحي بيّ ثم يقول قولته المشهورة قبل بدء الحديث : هاقولك على سر , بس متقولش لحد " ثم يفيض في الكلام , وبين لحظة وأخرى يتوقف لالتقاط أنفاسه , مكررا عبارته الخالدة " متقولش لحد "
لقد أثقل هذا الزميل كاهلي بأسراره الكثيرة والمتلاحقة , وكلما هممت بإفراغ بعضها , كي أترك مساحة فارغة لغيرها إلاّ وهاجمني ضميري بضراوة بالغة : كيف تفرّط فيما أُستئمنت عليه من سر ؟! إلا تذكر قولة صاحبك وتأكيده المستمر عليك " متقولش لحد " ؟!
لقد اعتصمت بالصمت فترات طويلة , حتى يوم مشهود , ذهبت مبكرا للكلية , دخلت للمدرج قبيل المحاضرة لأجد صخبا كبيرا , ضحك يصل حد القهقهة من البعض , زغاريد تنطلق من أفواه بعض الزميلات لتقض مضجع الطيور الهاجعة في أعشاشها فوق أشجار تحيط بسور الكلية من الخارج ..
سألت : ألغيت المحاضرة ؟؟
قيل : لا ..
علام صخبكم وأهازيجكم هذه إذن ؟!
انطلق الجمع في صوت واحد , كلُّ يحكي , فإذا بأسرار الزميل التي سردها على مسامعي منذ عامين , جمعيها سمعتها ووجدتها ملقاة على قارعة المدرج , الكل يعرف ومنذ زمن بعيد .!
سألني صديق : ألم تسمع عن الزميل " متقولش لحد " ؟! ألم يأتي إليك ليفضفض ببعض أسراره منبّها عليك بعبارته الخالدة " متقولش لحد "؟!
قلت : نعم .. حدث
وماذا فعلت معه ؟!
قلت : أقولك بس " متقولش لحد " ؟!!