قرأت قصة عن رحالة قديم وقد دخل بلدة فأعجبه ما فيها، ثم زار مقابرها فقرأ على أحد شواهدها : هذا قبر فلان، ألّف كتاباً وكان عالماً جليلاً ، ومات وعمره يومان ، ورأى قبراً آخر وقد كُتب عليه : هذا قبر القائد العظيم الذى انتصر فى موقعة كذا، ومات وعمره ثلاثة أيام ، ثم رأى قبراً آخر وقد كُتب عليه: قبر ملك الناحية ، وقد مات وعمره يوم ! فتعجب الرجل من هذا كله ، وتوجه إلى حكيم البلدة وسأله عن هذا اللغز الذى لم يفهمه ، فقال : إننا لا نعد من أيام حياتنا إلا الأيام السعيدة ، فقال الرحالة: إنى أود أن أموت فى بلدكم ، وأرجو أن تكتبوا على قبرى : هذا قبر رحالة ، جاب الأقطار ، وزار الأمصار ، ومات قبل أن يولد .
لا شك أن قيمة الزمن فى عمر بنى البشر مختلفة ؛ فمن الناس من يضيع أكثر أيامه سدى، بين نذر يسير من الجد، وفيض جمّ من اللهو، وسرور واقع وابتهاج مرجو، وقلة قليلة من الناس تقسمتهم الهموم والأحزان، أيامهم مجهدة، تزحمها المتاعب، ولا تبقى منها الأعباء المتعاقبة متسعاً لحظوظ النفس فى الدنيا.
كما أن الشيء الواحد قد يكون عملاً شاقاً مرهقاً، أو عملاً مريحاً ممتعاً، وهو لا يتغير فى شكله ومظهره، وإن تغيرت بواعثه؛ فالصيد حرفة شاقة يكدح فيها الكادحون طلباً للرزق، والصيد نفسه هواية للمترفين ورياضة للمنعّمين. والسفر للمكافحين سعى فى مناكب الأرض لطلب علم، ونوال رزق، وهو نفسه للمتيسرين استرواح وتنعم وإنفاق لمخزون فائض من وقت أو مال.
وكثيراً ما يظن الناس أن أسباب السعادة تتناثر فيما حولنا ، ولكن المتأمل فى واقع الحياة يرى أسباب السعادة تعتمد على النفس أكثر مما تعتمد على ظروف خارجية ، فمن الناس من يشقى فى النعيم ، ومنهم من ينعم فى الشقاء . وعلماء النفس يرون السعادة نوعاً من الفن؛ فمن عرفه وعرف سبيل الانتفاع به والاستفادة منه صار سعيداً فى حياته ، ومن لم يعرف هذا الفن ولم يعرف سبيل الفوز به عاش شقياً كما تشقى به الحياة .
والمتفائلون يستطيعون أن يخلقوا السعادة فى أنفسهم وفيمن حولهم، فهم يلوّنون الحياة بمشاعر البهجة، إنهم مصابيح وضاءة تفيض بِشراً وسعادة. ولعل أبرع ما يستطيعه المتفائلون أنهم يديرون أفكارهم فيصرّفونها كما يشاءون، فإذا تعرض أحدهم لموقف محزن صرف ذهنه عما يَرِد عليه من أسباب تدعو إلى الحزن، فهم يحركون زوايا تفكيرهم كيفما يشاءون. كما أنهم يفعلون الخير قدر ما يستطيعون، ويعيشون السعادة وهم صادقون، ويصنعونها جنة وهم لها واردون.