الصورة باهتة ، تكاد تنمحي ، تبدو فى ارتعاشتها الأخيرة ، ولا سبيل إلى إنعاشها أو حتى تثبيتها إلا فى قلب محب شارك فى رسمها واحتفظ بها ، ليس كميراث للأسى بقدر ماهى ميراث للسعادة والفرح.
أحدثك عن بسطاء المصريين فى حارات القاهرة الشعبية.. عن أولئك المتخصصين فى صناعة البهجة واقتناص الفرح من فم الشقا والتعب، الذين يتحايلون على ظروفهم الصعبة من أجل لحظة سعادة هم أولى بها.. أحدثك عن رمضان الشعبى تحديداً، بأجوائه الروحية المسجلة باسمهم.. الأجواء التى تخصهم وحدهم ويخاصمون فيها التشدد والتزمت والإفراط فى الادعاء ووضع الأقنعة لتبدو الوجوه ورعة تقية بينما الروح ترزح تحت أوساخها.
لم تكن مصر الشعبية وقتها ـ سبعينيات القرن الماضى - قد تقنعت بعد، أو مستها ريح صحراوية خشنة تجعل مظهرها نقيض جوهرها.. كانت السماحة والصراحة والوضوح بادية على المظهر ومستقرة فى الجوهر.. وإليك " لقطة واحدة " لهم وهم يستقبلون شهر رمضان الكريم .
وصل الأمر إلى اعتبارها مسألة كرامة، فمثلما تستعد فرق الكرة الشراب لهذه الدورة الرمضانية أو تلك وتعتبر الفوز بها مسألة حياة أو موت ، كانت الحارات هى الأخرى تتنافس فيما بينها علي الفوز بلقب الحارة الأجمل فى زينة الشهر الكريم.
تطلبت مهرجانات الزينة تلك، وجود بعض الصبية الغيورين على حارتهم والراغبين فى تحسين صورتها أمام الحارات الأخرى حتى لايقال إن ناس الحارة" شوية أقفال".. ويا ويل الحارة التى لم تنجب مثل هؤلاء.. كان الشهر الكريم محنتها وتظهرها كأنها جسم غريب زرعوه وسط حوارى شبرا .
قبل أن يحل رمضان بأسبوع علي الأقل، كان هؤلاء الصبية الغيورون علي الحارة، يمرون على بيوت الحارة، شقة شقة وحجرة حجرة ـ سكن عدة أسر فى شقة مشتركة كان أمراً شائعاً ـ يجمعون ما تيسر من القروش التى يدفعها الجيران عن طيب خاطر، وبعضهم يدفعها مضطراً وإلا ذاق الأمرين، خاصة لو كان لديه أطفال يعلم أن لعبهم في الحارة سيكون محرماً عليهم بل سيكونون منبوذين غير مرحب بهم فى أى أنشطة يقوم بها أقرانهم لأن والدهم " رجل جلدة ".
كان القرش وقتها صاحب كرامات يستطيع أن يأتى بالأفراح البسيطة خاصة لو كان صاحبه يمتلك خيالاً يمكنه من تحويل الحارة إلى متحف وجعل أمسياتها أكثر بهجة وطراوة حتى لو كنا فى عز الصيف.
لاشيء يُشترى جاهزاً، اللهم إلا اللمبات والأسلاك الكهربائية، أما الزينة فتصنع على يد مهرة ومبتكرين من أبناء الحارة، والأدوات المطلوبة بسيطة : عدة أفرخ من الورق السيلوفات الملون ،أحمر، أخضر، أصفر، وبكرة خيط منجد ـ خيط سميك يستخدمه المنجدون ـ ونصف كيلو " نشاء " أو ربع حسب حجم ومساحة الحارة، ومقص سلف من إحدي الجارات.
دائما العمل فوق أحد الأسطح، ربما لإنجاز الأمر فى هدوء ومفاجأة الحارة به، وربما هرباً من بعض المتطفلين الذين يحشرون أنوفهم في كل شيء.
يتولى قص الورق فنان الحارة التشكيلى، دائما لكل حارة فنانها التشكيلى، يقص الورق بعد طيه بطريقة معينة فتنتج أشكالا بديعة، ينبهر المشاركون بقدرته على طى الورق بهذه الطريقة ثم إعمال المقص فيه لتكون النتيجة هذه الأشكال، وتعجن النشاء فى أحد الصحون، وبعدها يلصق الورق المقصوص، من طرفه العلوى، بالخيط، وبعد الانتهاء من صناعة كل فروع الزينة يتم تعليقها فى الحارة "عرجة وعريجة" ويختلف الشكل فى بوابة الحارة أوتزداد المبالغة فى الزينة لأنها الواجهة التى سيراها كل من يمر من أمام الحارة ويقارن بينها وبين واجهات الحارات الأخرى.
يلزم الحارة فانوس أو جامع أو الاثنان معاً، وهذه تصنع إما من الجريد أو من البوص، وهما متوفران بكثرة، فالبوص أو الغاب ينمو علي شاطئ النيل القريب أو يتم شراؤه من أحمد الخردواتى، والجريد يتم جلبه من تلك الأقفاص المستهلكة التى يلقى بها تجار سوق الجملة بروض الفرج فى المقلب العمومى.
فنان الحارة التشكيلى بعد أن يقوم بصناعة الفانوس أو الجامع يكسوه بالسيلوفان ويزوده بمصباح كهربائى يتم تغذيته من أى " كوفريه " عمومى، كما يتم توصيل فرع النور الذى يمر فى الحارة بكاملها ليعانق الزينة بألوانها الزاهية ويشكلان معا لوحة تشكيلية بديعة.. كانت الحارات المحرومة من المواهب التشكيلية تستعين بتشكيلي من حارة أخرى يعمل متطوعا أحيانا لمجرد استعراض مواهبه.. وياسلام لو كان عاشقاً لإحدى فتيات تلك الحارة.
ثمة من كانوا يؤجلون تصميم الزينة أو تعليقها إلى اللحظات الأخيرة، ليس كسلاً أو تقاعساً، لكنها الخبرة التى تتطلب عينا مدربة تأخذ جولة علي الحارات الأخرى وترى زينتها وتهضمها جميعاً ثم تعيد إنتاج جديدها المبهر والمختلف الذى تفاجئ به الجميع وتؤكد أنها "البريمو".
لاينتهى الأمر عند تعليق الزينات والكهارب، فثمة مهمة أخرى توكل إلى آخرين أقل خبرة وكفاءة، فعقب صلاة العصر كل يوم يشمر هؤلاء عن سواعدهم، منهم من يكنس الحارة، ومنهم من يجمع المخلفات فى جردل أو مقطف ـ لم يكن البلاستيك قد سيطر بعد ـ ويلقى بها بعيدا، ومنهم من يحمل وعاء مملوءاً بالماء ليرش الحارة بعد كنسها.
ومتى انتهى الشغيلة من الكنس والرش، فلن تعدم الحارة متطوعاً من سكان الأدوار الأرضية أهدى إليه قريب عائد من ليببا جهاز كاسيت، حيث يقوم المتطوع أو الراغب فى التباهى بما لديه من أجهزة حديثة يعجز الآخرون عن الاتيان بها، سيقوم بوضع الجهاز على شباكه وإدارته لتسمع الحارة كلها ما يبثه من أغان أو تواشيح أو تلاوة قرآنية مباركة لأحد ملوك دولة التلاوة.. لم يكن الشيخ ياسين قد ظهر بعد.. كانت هناك شرائط كاسيت واسطوانات للشاعر فتحى سليمان أشهر رواة السيرة الهلالية فى بحري، وسيد حواس، وحفنى أحمد حسن، وأبو دراع، ومحمد طه، وحنفى البنجاوى، وبخيت الهلاوى، وأنور العسكرى، والحاجة خضرة، ويوسف شتا القليوبى وسواهم من المطربين الشعبيين و المنشدين الدينيين و رواة السير الشعبية.
فى مرحلة لاحقة غامر أحدهم، وكان كذلك أول من امتلك " بيك آب " فى الحارة، بإخراج تليفزيونه الأبيض وأسود إلى الحارة بعد الإفطار ليشاهد الناس الفوازير والمسلسلات على القناتين الأولى والثانية، وتطوع البعض لفرش حصيرة أو سجادة ليجلس عليها من يريد المشاهدة.. وخذ بالك فالسجادة التى أحدثك عنها كانت تصنع من الملابس القديمة، فكل سيدة لديها ملابس تمزقت ولم تعد صالحة للترقيع، أو ضاقت على أولادها، كانت تقصها شرائط وتبدأ فى صناعة كرة منها حتى إذا وصلت هذه الكرة إلى الحجم المناسب، الذى تقدره السيدة جيداً، حملتها إلى صاحب النول ليقوم بتحويلها إلى سجادة لقاء مبلغ معلوم لم يزد فى الغالب عن خمسين قرشاً.
أما الحصيرة ، وأحيانا يطلقون عليها " القياس" فكانت تصنع هى الأخرى من مواد نباتية طبيعية ويتفنن صانعها "الحصرى" فى رسم الأشكال عليها سواء من تلقاء نفسه أو بناء على رغبة الزبونة.
اختفت أو كادت السجاجيد المصنعة من القماش القديم وحلت بدلاً منها السجاجيد المصنعة من الألياف الصناعية ، واختفت كذلك الحصيرة المصنعة من الأوراق النباتية الطبيعية وحلت بدلاً منها الحصيرة البلاستيك .. حل البلاستيك على أدوات المصريين الشعبيين ـ رغماً عنهم بالتأكيد ـ فبهتت البهجة وصارت الزينة فى ارتعاشتها الأخيرة .