ولد فى قرية مصرية من أبوين مصريين متوسطى الحال، وتعلم القراءة والكتابة فى منزل والديه دون أن يذهب إلى الكُتّاب، وبعد أن جاوز الصبى العاشرة من عمره أتم حفظ القرآن على حافظ خاص، ثم بدأ فى تعلم تجويد القرآن وقواعد اللغة العربية، لكن منهج التعليم كان وعراً شاقاً، يخالف ما تقضى به أبسط قواعد التربية، وكاد الصبى محمد عبده أن ينصرف عن العلم وأن ينشغل بالزراعة، لولا أن قيض الله له أن يلتقى وهو فى عنفوان أزمة نفسية بأحد أخوال أبيه، وهو رجل طيب القلب ذكى الفؤاد، استطاع فى خمسة عشر يوماً أن يروض جماح الفتى، وأن يوجهه إلى المعانى القدسية واللذائذ الروحية. وقد تحدث هو نفسه عن ذلك الأثر الطيب الذى تلقاه فى ريعان شبابه، حيث رد له ما كان قد غاب عنه من غريزته، وكشف له ما كان قد خفى عنه مما أودع فى فطرته.
والحادث الجلل فى شباب محمد عبده هو التحاقه بالجامع الأزهر، حيث أنفق فيه سنوات دون أن يجنى الفائدة التى يطمح إليها؛ فقد كانت طرق التعليم فى ذلك الوقت ترتكز على فرض المعلومات وحشد الشروح والتدقيقات اللفظية التى تزهق الفكر وتعوق النمو، فانصر ف الشاب عن العلوم الأزهرية وتطلعت نفسه إلى علوم جديدة.
وما لبث أن التقى بشخصية كان لها أثر عظيم يلهمه ويوجهه وهو جمال الدين الأفغانى، حيث تلقى منه هداية روحية عظيمة، تحول على ضوئها من حياة الزهد إلى الإقبال على الحياة العامة ودراسة العلوم المختلفة، كالفلسفة والرياضيات والأخلاق والسياسة وغيرها.
وبعد معاناة طويلة من النفى والسفر إلى فرنسا وبريطانيا، عاد إلى مصر ليعين قاضياً بالمحاكم الشرعية، وقد عُرف عنه استقلال الفكر والتحرر من الشكليات، وكان يتوخى فى أحكامه تربية الجمهور، وإيقاظ ضميره، وإصلاح ذات البين بين العائلات، كما ارتكزت جهوده لإنهاض الأمة المصرية من رقادها، وإطلاقها من عقالها، عن طريق العمل على نشر التنوير العام، وبث التربية الأخلاقية، وإصلاح النظم الاجتماعية التقليدية حتى تساير مطالب الحياة العصرية. ثم عين الشيخ محمد عبده مفتياً للديار المصرية، فأضفى على ذلك المنصب سناء ومهابة.
وقد دعا الإمام محمد عبده إلى إنشاء جامعة مصرية حديثة، وقد ذكر ذلك الباحث الفرنسى "دو جرفيل" فى كتابه "مصر الحديثة" حيث عرض رسالة كتبها محمد عبده نفسه جاء فيها: " إذا نظرنا إلى حال التعليم الآن فسنلحظ أنه لا يكاد يقدر على تكوين رجل محترف بحرفة يكتسب بها عيشه، ومن المستحيل أن يستطيع هذا التعليم تكوين عالم أو كاتب أو فيلسوف فضلاً عن تكوين نابغة".
لقد كان سعى محمد عبده إلى إنشاء جامعة مصرية حديثة وفق مناهج عصرية تشارك فى تجديد الحضارة العربية القديمة بالدأب على الاقتباس من النتائج التى توصل إليها علماء الغرب فى العلوم والفنون والآداب. وفى يوليو عام 1905 توفى الأستاذ الإمام وهو فى أوج نشاطه دون أن يتوفر له الوقت والوسائل لإنجاز جميع مشروعاته الإصلاحية، وشيعته مصر حكومة وشعباً، كما كانت وفاته حداداً عاماً فى بلاد الإسلام، ونقش على قبره: قد خططنا للمعالى مضجعا.. ودفنا الدين والدنيا معا.