تعَرّض لتجربة مبكرة فى طفولته جعلته يصل إلى حكم ذاتى بأنه لا يستطيع التعلم، فعندما كان فى الخامسة من عمره، التقط لعبة من ألعاب "الفك والتركيب" التى اشتراها له والده وحاول تركيبها وتجميعها، كانت اللعبة تناسب من هم فى سن الثامنة، ولكنه لم يكن يعرف ذلك، ولا يعلم أن أطفال الثامنة يدركون أكثر من أطفال الخامسة خاصة فى هذا النوع من الألعاب، ويأبى إدراكه إلا أن يقوم بمحاولة تلو الأخرى، وتتمنع اللعبة عليه ولا تنصاع له، كان والده يراقبه ويرقب محاولاته المتزايدة وشكواه من عدم قدرته على تركيب ال.
عبة، وأخيراً قال له والده بدافع إحباط شخصي: "دع اللعبة جانباً؛ يبدو أنك لن تتعلم أبداً ولن تنفع معك أية وسيلة"، تسرب شعور اليأس لنفسه، يحطم جدران النفس الواقية واحدة تلو الأخرى، وظل يفكر طويلاً فى معنى أنه لن يتعلم أبداً!! وبعدها بأيام حاول تجميع لعبة الصور المعتادة، ولكنه تذكر والده عندما قال له: "إنك لن تتعلم أبداً" فقال فى نفسه: إن والدى على حق ولا يمكننى التعلم، وما لبث أن وضع اللعبة جانباً دون أن يبذل أى جهد، وتحول إلى شيء يسير آخر يمكنه القيام به، وهكذا كلما واجه أمراً استدعى هذه الخبرة، وتذكر كلمات والده ونبرتها المحبطة.
إن الأطفال بفطرهم النقية يظنون أنهم قادرون على فعل أى شيء، والأمر لا يتطلب أكثر من عدة محاولات، حتى يصلوا إلى مرادهم، ولو استمرت هذه المشاعر على فطرتها لاستطاع البشر أن يصلوا إلى أضعاف ما توصلوا إليه حالياً، والذى يقرأ فى سير المبدعين سيرى أن عدداً كبيراً منهم تُرك على حريته للتفكر والاستكشاف مع بعض تشجيع من المحيطين بهم، ولاسيما الآباء أو الأمهات حتى وصل هؤلاء بإبداعهم إلى ما نراه اليوم، أن تجارب الطفولة تترسخ فى وجدان الإنسان وتفعل فعلها فيه حتى تصير جزءاً متجذراً من كيان الفرد، وإن الفهم العميق لعمل هذه التجارب التى تشكل الشخصية يمنحنا معرفة أساسية لسلوك الفرد مبنية على خبرات الماضى كتجارب تأصل الطبع وتعزز القناعة؛ إيجابية كانت أو سلبية ..متحيزة أو حيادية.
إن تجارب الطفولة بحلوها ومرها تشكل البنية العميقة لكياننا النفسى الذى يُبنى عليه إدراك الفرد لنفسه ولمن حوله وكذلك أفعاله وإقدامه وإحجامه، ولذلك علينا أن نحذر كل الحذر من الكلمات التى تلقى على مسامع الصغار.، لا نلقى لها بالاً ولا نعلم أنها تعلو بهم لعنان السماء أو تجرّهم للدرك الأسفل من الأرض؛ فلا يضيع صدى صوت داعب آذان الطفولة.