رغما عنها استسلمت لتداعيات الزمن ليلامس جبينها الأرض بعد ما يقرب من أربعة قرون قضتها وهى تعانق عنان السماء، وتجود بالظل والثمر، لم تئن من قسوة الهجير أو غزارة المطر، ولم تثنها حوادث الأيام عن العطاء ظلا وثمرا ولطالما كانت أغصانها ملاذا للطيور الحائرة وأوراقها ظلالا يحتمى بها المارة من قسوة الشمس الحارقة، فضلا عن دورها الجمالىً فى زيادة مساحة الخضرة بالمكان، وكانت ككل قريناتها من الأشجار تحديا للتلوث البيئى الذى زاد بمعدلات عاليه فى السنوات الاخيرة.
أما عن تحملها لسخافات الصغار فحدث ولا حرج، فما أن يأتى الربيع وتبدأ وريقاتها الخضراء فى الظهور وتبدو فصوص التوت الخضراء التى لم تنضج بعد حتى تلاقى ما تلاقيه من تحرش الصغار بالورق والثمر، فلم ينقطعوا عن قذفها بالحجارة واعتلاء أغصانها وهزها بكل قوة ليتثنى لهم الحصول على ثمرها اليانع، خاصة ما يكون منه فى الأطراف التى لم يتمكنوا من الوصول إليها.
عاشت شجرة التوت معاناة يومية تبدأ من طلوع الشمس وحتى الغروب مع صغار القرية الذين يتناوبون عليها من كل صوب وحدب، فربما كانت الشجرة الوحيدة التى تعتبر مشاعا للصغار والمارة فليس هناك من ينهر الصغار حين يعبثون بأغصانها وأوراقها.
فإذا بها تعلن الاستسلام وتجثًوا على الارض بعدما وهن جذرها وتخلخل بفعل حالة الاهتزاز التى تشهدها يوميا وربما لمدة تزيد عن اثنى عشر ساعة متواصلة
فهل قتلها حماقة الصغار وسخافتهم فى الاعتداء اليومى عليها طمعا فى الحصول على ثمرها، وهم يتعاملون معها بقسوة لم تستطع عليها صبرا، هل أدرك الصغار أن لكل شىء طاقة وهل حزن أحد منهم على موتها واقتلاع جذورها وأنهم لن يكون بمقدورهم الحصول على ثمرها بعد اليوم وبعد فترة وجيزة سيكون حطامها وقود لنيران تستعر؟.
من ذرع فى نفوس أبنائنا هذه القسوة على الزرع والحيوان، وكيف تشكل وعيهم ومن يهذب ثقافتهم ليكون المستقبل أفضل مما كانا ومتى يبدل الإنسان قسوته رأفة وحنانا.
أم قتلها إهمال أصحابها الذين تركوا المكان الى المدينة سعيا لحياة اكثر رفاهية وأمنا وهم لا يبتغون منها ظلا ولا ثمرا، وكل ما يعنيهم فى الامر انها صدقة جارية على روح من زرعها والذى زاد عنها طيلة حياته وفقدت برحيله المأوى والسند، وربما كانت سلبية الجيران هى من قتلت شجرة التوت وهم يشاهدون الصغار يحملونها ما لا تطيق فلم يعبأوا او يهتموا وهم اكثر الناس انتفاعا منها ظلا او ثمرا ولكن سلبيتهم اتجهت لمسارات اخرى فاعتقادهمً بأن ملكيتها لآخرين تستوجب عليهم حمايتها حتى وان كانوا يقيمون خارج نطاق القرية فلديهم نقص كامل عن مفاهيم حماية البيئة وربما اعتقدوا أن الرحمة قاصرة على البشر وبعيدة عن الشجر، ربما كانت هذه الأسباب بعضها او كلها من قتلت شجرة التوت.
لكن ترى من افتقدها البشر أم المكان؟، لا شك أن المكان هو من افتقدها وربما بكتها الطيور والطبيعة فيما يمر البشر فلا يعبأوا بها وربما تساءلًوا عن السبب وبيت بعضهم النية على الفوز بجسدها اليابس الذى اثر الرحيل رغم آلام المصير المنتظر ،ويبقى السؤال لما نقتل من يمنحنا ويعطينا ونجفف منابع العطاء فتصبح حياتنا اكثر قسوة وتندثر مساحات الرأفة فى قلوبنا فيتوارث الصغار ما يجعل مستقبلهم اكثر غموضا وتعقيدا بقدر ضآلة طموحهم وتفاهة احلامهم.