كانت إحدى الصديقات تسير بسيارتها فى الطريق، وإذا بكرة تصدم مقدمة السيارة، وتختفى تحت عجلاتها، وتنتبه الصديقة بعد الصدمة على صوت طفل أجش لايتناسب مع سنه الصغيرة، ويحدثها فى عنف لا يخلو من براءة الأطفال قائلا: "كِدة قطعتى الكرة بتاعتى"، وترد عليه بأنها ليست السبب، بل هو وأصدقاؤه، من تسببوا فى إيذائها وسيارتها، ويسب الولد ويلعن، فتركته وانصرفت، ولكن ظل عالقا بداخلها تلك الدموع الحارقة التى رأتها فى عين الطفل رغم عنفه، وسوء كلامه.
لقد كانت الكرة بالية لا تصلح، فلماذا كل هذا العنف والبكاء ؟! ودفع الفضول صديقتى للسؤال عن هذا الطفل، واستطاعت معرفة مكانه، حيث علمت أنه يقطن فى شارع مجاور لها، كما علمت أنه يتيم، ويحيا حياة الكفاف؛ وهنا استطاعت صديقتى أن تجد تفسيرا لما حدث، فهذا الطفل يبكى كرته البالية، ويحزن عليها؛ لأنها كل ما يملك من متاع لعبه، ولا يستطيع شراء غيرها .. وأخبرتنى أنها عزمت على أن تذهب إليه فى بيته، وفعلا زارته وقدمت له كرة جديدة، ووصفت لى كم كانت سعادته، وفرحته.. وتمر أيام وسنوات، ويستوقفها فى الطريق نفسه، شاب يُعرّفها بنفسه، ويقابلها بترحاب، ويُذكّرها أنه صاحب الكرة، ويكرر شكره لها، وأنه أبدا لم ينسَ موقفها معه.. ويبادرها قائلا: " طنط أنا كبرت دلوقتى لو حضرتك احتجت أى حاجة اتصلى على".. استمعت بشغف إلى صديقتى تقص على ذلك، ووجدتنى أردد فى نفسى: لاتحقرن من المعروف شيئا، ولو تلقى أخاك بوجه طلق.
بالطبع قد ننظر إلى بعض الأمور على أنها بسيطة؛ ولكنها تترك أثرا فى الآخر قد يُغير مسار حياته كلها، ولاندرى أى عمل يدخلنا الجنة، قد تكون ابتسامة أو كلمة.
وعلى الفور تذكرت قول النبى -صلى الله عليه وسلم: " أنا وكافل اليتيم فى الجنة كهاتين، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى " .. كم أنت عظيم ونبيل يا محمد، وكم يُقدم هذا الدين من مبادئ الرحمة والإنسانية. إن موقفا بسيطا عابرا تجاه صبى فى الطريق، جعله وافيا، عارفا بالجميل، شعر أن هناك من يحترمه، ويهتم بأمره، فما بالنا بمن يكفل يتيما، ويتولى أمره؟ إن عِظم المكانة التى وعدنا بها الحبيب المصطفى، يدل على شرف كفالة اليتيم، ومكانة هذا العمل عند الله عزوجل، وهل هناك درجة أشرف من مجاورة وملاصقة النبى فى الجنة ؟ ماذا فعل كافل اليتيم لينال هذه المنزلة؟
إنه يبنى إنسانا، يقدم له الحياة، يجفف الدموع الحارقة، ليرسم مكانها ابتسامة، يقتلع حزن النفس البائسة، ليغرس بساتين الفرح والسعادة، يستل الحقد، لتنعم نفس اليتيم بالحب والرضا، إنه يصنع مجتمعا فاضلا، ويسهم فى إعمار النفس قبل الكون.
إن الطفل اليتيم حالة خاصة جدا فى ميزان الإسلام، حالة تستوجب التأمل والتدبر، فإن كان اليتيم فقيرا فلابد من كفالته. وإن كان وارثا يملك، فيجب المحافظة على ماله، حتى يكبر، ولعظم مكانة اليتيم فى الإسلام، نزل فيه قرآنا كثيرا، منه قوله تعالى: )ويَسْألُونَك عن اليَتامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهثم خَير..) وكذلك قوله تعالى:( وأمَا اليَتِيم فَلا تقْهَر" .. نعم أوصى به الإسلام فى الحالتين؛ لأنه فى حالة اليسر أو العسر، يعانى المذلة والانكسار، بفقدان والده، فالأب ظهر وسند، وحماية ورعاية، وقد لايشعر من يستمتع بأبيه بتلك النعمة الكبرى، ولكن من فَقَدَ عرف، من حُرم يد الأب الحانية وسنده، ذاق مرارة اليتم والحرمان، مرارة يتجرعها فى كل مواقف حياته. فالأب هو الأمان والرحمة، هو الأخ والصديق، هو اللمسة الحانية التى ترطب النفس، وتقويها، والحضن الدافئ الذى يجعلنا نتصالح مع أنفسنا، ومن حولنا، كل هذا يفقده اليتيم، فيرتد هذا الحرمان على نفسه آلاما وحسرة، وقد يتحول إلى حقد على من حوله، إذا لم يحتوِ المجتمع هذا اليتيم، ويتعهده بالحب والرعاية.
ولا يكفى أن يكون هناك يوم لليتيم، لأن رعاية الأيتام والقيام عليهم، لابد أن تكون كل دقيقة، ولتحل الرعاية محل الازدراء، ولنتذكر دائما، أن أكمل الرجال، وأشرف الأنبياء كان يتيما، أصلحوا تنصلح الدنيا بكم، فليس هناك أى ذنب لطفل وجد نفسه يتيما، ثم أصبح من أطفال الشوارع، وصار مجرما، نحن من صنعنا هذا المجرم، نحن من أسهمنا فى ضياع هؤلاء ..
ولن أختم تلك السطور قبل أن أوصيكم بكفالة اليتيم، فلتبحث فى شارعك، فى عملك، فى مسجدك، عن طفل يتيم، ولتجعل له نصيبا دوريا من راتبك، ولتعلم أن السعادة التى تهبها لليتيم، سوف ترتد فرحا وسرورا، وبركة وخيرا لك ولأولادك، كن يد العطف التى تمسح الدموع الحارقة، لتكون إنسانا.. ولا يسعنى إلا قول المنفلوطي:" ليتك تبكى كلما وقع نظرك على محزون، فتبتسم سرورا ببكائك.. واغتباطك بدموعك، لأن الدموع التى تنحدر على خديك فى مثل هذا الموقف، إنما هى سطور من نور تسجل لك فى تلك الصحيفة البيضاء.. أنك إنسان".