قامت الدنيا ـ فى مصر ـ ولم تقعد. عقب صدور أحكام بالسجن ضد إسلام بحيرى، وفاطمة ناعوت. وقد حوكما بتهمة ازدراء الأديان. الأول بسبب تهجمه على البخارى، وعلماء الأمة، وتسفيه أقوالهم، والحط من شأنهم وقدرهم. والثانية بسبب إعلانها الامتعاض والتأذى من مذبحة الخرفان، التى تجرى سنوياً فى عيد الأضحى المبارك، نتيجة حلم فى المنام رآه رجل عجوز. وقد جاء فى الطريق المدعو أحمد ناجى، بسبب رواية له كتبها. وعلى أساس ما صدر عن الثلاثة تحرك أحاد الناس، وتقدم ببلاغات للنيابة العامة، مستنداً فيها إلى نصوص قانونية، يتهم فيها الثلاثة بازدراء الأديان. وقد وجدت النيابة العامة أن ما ورد فى البلاغات من اتهام يتفق وصحيح القانون، ولما كانت هى الأمينة على الدعوى العمومية، فقد قامت بالتحقيق فى البلاغات، فأخذت أقوال المبلغ، بعد مناقشته فى أقواله، وأخذت أقوال المبلغ فى حقهم، بعد مناقشتهم فى أقوال المبلغ وأقوالهم. وذلك فى وجود محامين عن الأطراف.
ومن هنا تحركت القضية، وحكمت المحكمة. ومن هنا أيضاً كانت القضية من آحاد الناس ضد آحاد الناس، ولا دخل للدولة فى الأمر. وقيل فى معرض التعليق على الأحكام واستنادها على صحيح القانون، أن المادة التى أضيفت إلى قانون العقوبات قد وضعت لحماية المسيحيين من تهجم الجماعات الإسلامية فى حينه. ومن ثم يتعين قصرها على ما وضعت له. وقد نسى من يقول بذلك أن القاعدة القانونىة لها صفة العمومية والتجريد. وأنه طالما وجدت القاعدة النصية، انسحبت على الوقائع والأشخاص الذين يقعون تحت طائلتها، دون تمييز، فى إطار السلطة التقديرية للقاضى، الذى يتحرك فى إطار الإجتهاد فى النص لا مع النص، لأنه لا اجتهاد مع النص. إذن فلا محل هنا للتربص من الدولة أو غيرها ـ كما يشيع البعض ـ فى مواجهة حرية التعبير عن الرأى. فالنص موجود، ومعلوم، ولا محل للدفع بجهله. إذن فاتخاذ هذه الأحكام مطية لمهاجمة الدولة ـ ممثلة فى سلطتها التنفيذية ـ لا محل له من الإعراب. وإن كان هناك من اعتراض فلا يكون على الحكم أو الدولة، وإنما يكون على النص القانونى، وعلى من عمل خارج إطاره. ومهاجمة النص والإعتراض عليه والمطالبة بتعديله أو إلغاؤه يكون أمام مجلس النواب باعتباره الجهة المنوط بها دستورياً القيام بكل ذلك دون غيرها. وكذا يتعين مهاجمة من أراد أن يعبر عن رأيه خارج إطار القانون وهو يعلم، إذ أنه فى هذه الحالة جانياً لا مجنياً عليه، يستوجب الإعتراض والمهاجمة. ولا يوجد ما يسمى الحرية المطلقة عند أصحاب العقول الرشيدة، إذ أن الحرية المطلقة، فوضى مطلقة، والفوضى المطلقة، مفسدة مطلقة، والمفسدة المطلقة تقوض المجتمعات، وتأتى على بنيانها من القواعد. والحرية التى يتكلم عنها الليبراليون القدامى والجدد، ويفلسفونها، وينظرون لها، هى الحرية المسئولة.
والحرية المسئولة، فى أعلى سُقفها، بينها وبين الفوضى خيط رفيع مشدود، ينبغى أن يتوازن من يرغب فى التعبير عن رأيه فى المشى فوقه، دون أن يسقط فى بحر الفوضى والتخبط. وفى إطار الحرية المسئولة يمكن مناقشة تعديل المادة أو إلغاؤها. وفى إطار الحرية المسئولة يمكن مقارعة الحجة بالحجة، والفكرة بالفكرة، والغلبة لمن غلب. أما الحرية بلا مسئولية فلا تصح إلا فى عالم المجانين، وهنا فقط يسقط الحساب والعقاب، ويصبح كل شيء مباحاً، فى ظل غياب العقل. ويشتم من الدفاع عن إسلام بحيرى وغيرهما، أنهما على صواب، ومارسا حقا مقررا، وأن ما تم معهما هو تجنى عليهما، واعتداءًا عليهما، وانتهاكا صارخا لحريتهما فى التعبير. وهذا غير صحيح، لأنه لو لم يكن هناك نصا قانونيا للمعاقبة، لما أفلتا من عقاب المجتمع الذى وقع الاعتداء عليه بالنيل من ثوابته، أو النيل من علماءه على هذا النحو المهين، والسجن الحالى إن كان بعزلهم عن المجتمع، فالسجن الآخر سيكون بعزل المجتمع عنهم.