ريجينى شاب إيطالى، دَفعه ـ أو دُفِع به ـ حظه ـ وحظنا ـ العاثر إلى مصر، فى ظرف تاريخى بالغ الحساسية والدقة. ففى ظل حالة ازدهار وتفاهم غير مسبوقة بين مصر وإيطاليا يتم الدفع بريجينى. ومن قبلها كانت واقعة اسقاط الطائرة الروسية فى ظل ظروف مشابهة.
ورغم أن قضية ريجينى أكثر وضوحاً من قضية الطائرة الروسية، إلا أن إيطاليا ابتلعت الطعم بأكثر مما ابتلعته روسيا. وأنا هنا لا ألوم إيطاليا، إذ أنك لا تستطيع لوم من يقف ناظراً إلى الجانب الآخر، أنه لا يرى ما تراه، إذ لا يرى ما تراه إلا من يقف معك فى ذات الإتجاه، وينظر من نفس زاوية رؤيتك. ورغم وضوح قضية ريجينى من الناحية المنطقية، إلا أنك لا تستطيع افتراض الموضوعية بلا بينة، وإلا عُدَّ افتراضك مصادرة للعقل. وسر الوضوح أن توقيت اختفاء الشاب، والإبلاغ عن اختفائه، وقتله، ومكان وجود جثته، وحالة الجثة، كل ذلك ينبئ بأننا لسنا إزاء جريمة قتل جنائية، وإنما جريمة تنبيء بذاتها عن الجانى. فعندما يتواكب اختفاؤه مع ذكرى ثورة يناير، وما صاحبها من دعوات ثورة جديدة، تجعل كافة أجهزة الأمن فى حالة استنفار قصوى، وهذا الاستنفار يدفع إلى التركيز على جوانب دون أخرى، من باب ترتيب الأولويات. ثم ظهور الشاب مقتولاً، وملقاً على قارعة الطريق، فى ذات توقيت، وجود وفد إيطالى موسع، جاء لتوسيع دائرة التعاون بين مصر وإيطاليا. ومصر هى الطرف الأكثر احتياجاً لذلك، وحرصاً عليه. فهل يمكن القول بأن أحد الأجهزة الأمنية المصرية هى التى قامت بتصفيته فى مثل هذه الظروف ؟ !. فلو افترضنا ذلك، فماذا تركت الأجهزة المصرية للأجهزة المعادية أن تفعله ؟ !.
الحكم هنا متروك للعقل والمنطق. ولأن القتل ليس جنائياً، فقد عمد القاتل إلى تشويه الجثة، وإظهار آثار تعذيب بها، ليسهل بعد ذلك الزعم بأن أحد الأجهزة الأمنية هو من فعلها. وهو ما حدث بالفعل. وبون شاسع بين أن تبحث فى قضية بعقلية متحررة من الضغوط، أو تبحثها وأنت متهم، ومكبل العقل بأغلال إثبات البراءة. والأجهزة المحترفة ـ ومن بينها الأجهزة المصرية بلا شك ـ لا تنشغل بالضغوط المحيطة بها، وتعمل دائماً بعقلية متحررة. إلا أن ذلك يصح فى الظروف الاعتيادية للبلاد. أما الظروف التى تمر بها مصر تمثل عوامل ضغط مستمرة ومتجددة ومتكاثرة على مدار عدة سنوات، وهى بالقطع تشغل جانباً من تحرر العقل بعوارض جانبية قد تصيب بعض أداءها ببعض الارتباك. وهو ما قد ظهر فى صورة ارتباك فى إدارة الأزمة مع الجانب الإيطالى. ساهم على نحو فاضح فى هذا الارتباك غياب الإعلام الحكومى عن المشهد، وعلى رأسه هيئة الإستعلامات. والحضور الطاغى للإعلام الخاص المصرى، الذى يتبارى فى إظهار الصورة من جانبها السلبى، سواء من حيث الأداء، أو التعاطى، فضلاً عن تطوعه فى فبركة الأدلة والبراهين، بغض النظر عن تفاهتها أو تهافتها، التى تضفى على الأداء المصرى ظلال قاتمة من الشك والريبة، سواء تم ذلك بجهل أو بسوء نية وقصد، لتحقيق مآرب ضيقة لأصحاب هذه القنوات أو الجرائد أو المواقع على جثة الوطن. كل هذا يزرع مفاهيم وقناعات مغلوطة لدى الجانب الإيطالى عن الموقف المصرى، بل إنه يتعامل مع الموقف المصرى على ضوء قاعدة البيانات، تلك التى تكونت لديه من إعلامنا. ولم يقم بهذا الدور الإعلام وحده، وإنما ساهمت فى ذلك بعض منظمات حقوق الإنسان المصرية، التى تعمل وفقاً لأجندات مصادر تمويلها. وكذا شبكات الجماعات الإرهابية بالخارج. هذا من ناحية الداخل.
أما من ناحية الخارج، فلا ريب أن هناك أجهزة استخباراتية لها أزرع إعلامية تعمل لصالحها، داخل مصر وخارجها، بما يخدم أهدافها داخل مصر. وهى كذلك تلعب على الجانب الإيطالى، الرسمى والشعبى، بالتقارير المكذوبة، والتحليلات المغلوطة، التى تقدمها باعتبارها حقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. ومن هنا لم يشفع لمصر وجود وفد أمنى إيطالى مشارك فى أعمال التحقيق والبحث.
ولم تقنع أوراق التحقيق الجانب الإيطالى لأنها لم تدخل على عقول متحررة لا تحمل أحكاماً مسبقة عن الجانب المصرى. وبعد فشل مهمة الوفد المصرى، الذى تزامن وجوده مع سحب الحكومة الإيطالية لسفيرها فى مصر للتشاور، وبعد تصريحات وزير الخارجية الإيطالى الذى هدد فى مجلس الشيوخ باتخاذ إجراءات تصعيدية حيال مصر. وجدنا حالة من التراخى والهدوء فى مواجهة حالة التشنج الإيطالى.
صحيح أننا ندرك أهمية العلاقات المصرية الإيطالية، وصحيح أننا ندرك أن الموقف الإيطالى سيجرجر خلفه الموقف الأوروبى، والموقف الأوروبى سيواكبه بالضرورة موقف أمريكى مماثل. وأن هذه المواقف ستؤلب علينا الموقف الدولى. وكرة الثلج المتدحرجة لابد أن تكبر بحكم الضرورة. ونحن فى موقف تصعب علينا فيه المواجهة. إلا أن ذلك لا يعنى بالضرورة ممارسة الانبطاح تجاه الابتزاز، والتعامل مع كرة الثلج بهذا البرود. فإن كانت لنا مصالح عاجلة وملحة ومنقذة لدى هذه الدول، فهذه المصالح ليست من طرف واحد، وإنما هم أيضاً لهم مصالح معنا بدرجة أو بأخرى. فإن كنا سنألم، فإنهم سيألمون كما نألم. ولابد أن تكون لنا أنفاس ساخنة تذيب بعض الجليد، أو على الأقل تحول دون تضخم كرته. ولا ننسى أن الحرة تموت ولا تأكل بثدييها. فهل إلى ذلك من سبيل ؟.