تاريخ الأتراك ماثل أمام أعيننا لكننا لا نقرأ، فالذي يزور القاهرة القديمة ويمر بمنطقة الداودية بشارع محمد علي، سيشهد مسجد مبني كله بالحجر الأحمر كما هي العادة في المباني التركية بمصر، هذا المسجد يسمى مسجد الملكة صفية، وقد أنشأه أحد مماليك السلطانة صفية زوجة السلطان مراد الثالث العثماني ووالدة السلطان محمد الثالث، ولهذه السلطانة التركية قصة دموية بشعة يرويها التاريخ.
فقد كانت صفية في الأصل أميرة من البندقية، أسرها القراصنة العثمانيون ثم باعوها إلى رجال السلطان مراد الثالث، وما لبثت أن انتقلت إلى حريم السلطان، ورغم أنها لم تكن بارزة الجمال، إلا أنها تميّزت بالمرح والجاذبية مما أدى إلى سرعة تعلق مراد بها، ولم يمض عام على دخولها الحريم، حتى أنجبت له ولدا أطلق عليه أبوه اسم محمد، وحظيت صفية بلقب السلطانة دون بقية الجواري والحريم، فقد أصبحت هي الشخصية الثانية في القصر بعد السلطانة الوالدة نوربانو "اليهودية" التي كانت متحكمة في شئون السلطنة منذ وفاة السلطان سليمان القانوني، سواء في عهد زوجها سليم الثاني، أو عهد ابنها مراد الثالث. حتي دبرت صفية لقتلها بالسم في 7 ديسمبر 1583، ومن قبله اغتالت الصدر الأعظم صوكولو في العام 1579.
ومع إعلان وفاة السلطان مراد الثالث، في منتصف يناير عام 1595م حيث أسرعت صفية إلى ولدها محمد تطلب منه سرعة الجلوس على العرش لاستقبال المعزّين بصفته السلطان الجديد. وأطل محمد خان حوله فلم يجد أحداً من إخوته الثمانية عشر لمشاركته في تقبّل العزاء، فسأل أمه عن سر تخلفهم عن الحضور، فقالت له: لا يثورن قلقك، فأنت هنا وحدك بصفتك السلطان الجديد وستقوم بواجب تقبّل العزاء في السلطان الراحل. أما إخوتك الباقون، فقد سبقوك إلى داخل الضريح ليكونوا في استقبال جثمان أبيهم عند الدفن.
بالفعل فقد سبقوه إلى داخل الضريح قبيل شروق الشمس، إذ نزلوا جثثاً هامدة الواحد تلو الآخر مخنوقين، فقد كانت الملكة صفية قد دبّرت للأمر مع عدد من مماليكها ليكونوا في وقت واحد قد انفردوا بأبناء السلطان ليخنقوهم داخل غرفهم في سكون ويُحملوهم في جنح الليل وينفّذوا أمر السلطانة بأن تسبق أجسادهم جثمان السلطان قبل إنزاله إلى الضريح!
ولما علم السلطان محمد الثالث بما حدث قالت له أمه:
- لقد خلصتك منهم حتى لا ينازعك في السلطة أحد منهم، فتصبح وحدك السلطان دون منازع، ألا تعلم أن أباك السلطان مراد قد فعلها هو وزوجته "اليهودية" مع إخوته الخمسة محمد وسليمان ومصطفى وجهانكير وعبدالله حتى لا يزاحمه أحد في السلطة بعد وفاة أبيه السلطان سليم الثاني عام 1574؟
وظلت تلك المرأة الداهية مسيطرة على ابنها محمد الثالث كما كانت مسيطرة على زوجها، واستمرت السلطنة ألعوبة في يديها، حتى مجيء السلطانة كوسم زوجة حفيدها السلطان أحمد الذي تولى العرش بعد موت أبيه، والتي كانت قوية وذكية أيضا بحيث تمكنت من تقليص نفوذ السلطانة صفية إلى حد الزوال ولتتحكم هي في السلطنة لأربعين عام قادمة، حيث قضت صفية بقية حياتها في قصر جميل على ضفاف البوسـفو، حتى ووفاتها المنية في 10 نوفمبر 1619. وتدفن في مقبرة مراد الثالث في مسجد آيا صوفيا بإسطنبول.