لقد تساقطت الأقنعة على نحو فاضح، ولم تتمعر تلك الوجوه الكلحة، وتتمزق جلودها الميتة مع تمزق أشلاء الضحايا فى حادث الطائرة المصرية المنكوبة. لا أقصد بالطبع الإخوان وأشياعهم الذين أبدوا شماتة وتشفياً غير مسبوقين ـ ككل مرة ـ فى مصر وأهلها، لأنهم لو لم يفعلوها، لما كانوا إخوانا، ولما كان هذا حالهم ومآلهم ـ وإنما أقصد الصحافة والميديا الغربية. فقد كنا نعتبر الغرب هو قبلة الشرق فى الحيادية والموضوعية وأسس وقواعد التفكير العلمى المنضبط.
ووفقا لما تعلمناه على أيديهم، وتتلمذنا عليه، أن نتعامل مع حادث الطائرة المصرية المنكوبة وفقاً لهذه الاعتبارات. تقوم الأجهزة المعنية بتجميع المعلومات الأولية عن الحادث، عن طريق إعادة تجميع حطام الطائرة، والعثور على الصندوقين الأسودين، ثم تحليل البيانات المتحصل عليها، وتدقيقها، ثم الاستدلال من خلالها على حقيقة ما حدث، والأسباب التى تقف وراء الحادث، ثم إصدار الحكم النهائى أو القرار. إلا أننا فوجئنا باستباق ـ يبدو طفولياً ـ للأحداث، وهو استباق فى حقيقته مغرض، يستهدف استغلال الظرف النفسى الذى هيأه الحادث، للتأثير على توجه الرأى العام، فى اتخاذ موقف عدائى أو سلبى أو محايد مع الجانب المصرى. المهم أخذ زمام المبادأة، وشن حرب شعواء على العقول بالباطل، لأخذها فى الاتجاه المستهدف. وكأنى بالميديا الغربية كأنها مدفعية ميدان تضرب بقوة لتهيئة مسرح العمليات وتليين دفاعات العدو، تمهيداً لمعركة قادمة، تستهدف فى النهاية إسقاط مصر.
دعك من مقولة أن وراء كل إنجاز يُعلن، كارثة تحل، وإن كان الواقع يؤيدها ولا ينفيها. ودعك كذلك من القول أن وراء كل علاقة تتوطد بين مصر ودولة ما، إلا وقعت لهما كارثة تبدد هذا التوطد وتنهيه. فرغم إمكانية القول بكونها وقائع قدرية، إلا أنه يصعب فيها استبعاد الأصابع البشرية العابثة فى الظلام أو من وراء ستار. أو على أقل تقدير استغلال تلك الوقائع القدرية فى الإساءة لمصر وأهلها، والإضرار بها، والنيل منها، على نحو من الأنحاء. وإلا فما معنى الإعلان عن فكرة انتحار قائد الطائرة، أو ظهور دخان فيها.. إلى آخر تلك الافتراضات التى لا معنى لها قبل ظهور نتيجة التحقيق والفحص الفنى المهنى المحايد. وهم إن فعلوها الآن، فقد فعلوها من قبل فى الطائرة المصرية التى أغرقوها فى المحيط، ويومها ألصقوا التهمة بالبطوطى رحمه، وقالوا إنه انتحر. وهذه المرة جرى التركيز الشديد على الطائرة والطيار، متناسين المطار، وما قد يعترى تأمينه من نقص أو عيوب. بعكس ما حدث فى طائرة شرم الشيخ، حيث جرى تناسى الطائرة والطيار، وجرى التركيز فقط، على المطار، وما يعترى تأمينه من عيوب ونقائص. واختفت الموضوعية والحيادية والتفكير العلمى وقواعد العدالة، مع أن الحادثة واحدة، والاختلاف لا يتأتى إلا فى تبعية المطار والطائرة والطيار. ومما يدلل على استهداف مصر ـ بعيداً عن نظرية المؤامرة التى لا تروق للبعض ـ أن أخبارهم الورقية أو الإلكترونية أو المتلفزة، أبرزت كلمة " مصر للطيران " فى صدرها، واتخذتها بعض محطات التلفزة خلفية لها طوال فترة بثها للخبر، أو أثناء تحليله ومناقشته. حتى يستقر فى ذهن القارئ أو المشاهد ما يبثونه من سموم ـ بعيداً عن الحقائق التى لم تظهر بعد ـ مقترناً بمصر وشركتها، وهى نوع من الدعاية السوداء التى تمارس للإيقاع بمصر، بغض النظر عن حقيقة ما حدث للطائرة، التى ستنسى فى غمرة الأحداث ولا يتبقى منها سوى ما استقر مسبقاً فى الأذهان من دعاية سوداء.
وإذا دققنا فى البحث وراء الميديا الغربية لوجدنا أن مصداقيتها قد تهاوت، وأنها أصبحت بعيدة عن المهنية، وأضحت أسيرة لرؤوس أموال اشترت أسهمها، أو مولتها، أو جعلت لها نصيباً فى التورتة الإعلانية.. أو غير ذلك من السبل والتيسيرات. وأصبحت الأقلام ـ فى أغلبها ـ أسيرة للرأسمالية المتوحشة. والمسألة ليست كلام يُقال، أو مبادئ تُرفع فى مواجهة الآخر. فالكلام يحتمل الصدق، ويحتمل الكذب. وقد قال الشاعر: " السيف أصدق أنباء من الكتب ". وقد رفعت المصاحف على أسنة الرماح، فى حرب الفتنة الكبرى، بين سيدنا على رضى الله عنه، وسيدنا معاوية رضى الله عنه، كما رفعت المصاحف فى تجمعى رابعة والنهضة. والمعيار هو السلوك والفعل على الأرض. فقد جاءنا الإحتلال الغربى لأراضينا تحت مسمى الإستعمار، وقد كان فى حقيقته نهباً واستخراباً واستعباداً واستحماراً، وما تركونا إلا بعد أن نهبوا أموالنا، ومصوا دماءنا، واستباحوا حقوقنا، ثم افتروا علينا الكذب. وأوهمونا أنهم مصدر كل قيم نبيلة، وأخلاق حميدة، ومبادئ راسخة متينة. وهى فى حقيقتها قيم، وأخلاق، ومبادئ، برجماتية لمنفعتهم هم دون غيرهم. قيم وأخلاق ومبادئ عنصرية تخصهم دون غيرهم من بنى البشر. وكنا نظن أننا تحررنا بجلائهم عن أراضينا، فإذا بنا نكتشف أنهم قد احتلوا عقولنا وأفكارنا ومشاعرنا. وما من شيء إلا ونحن لهم فيه تابع. وبرغم أننا قد تعلمنا على أيديهم أمور حسبناها بدهيات لديهم، وينبغى أن تكون كذلك لدينا، إلا أننا فى كل مرة نكتشف أننا قد غرر بنا، وأن الدفة لا تزال فى أيديهم، لا فى أيدينا. تلك هى الحقيقة حتى ولو سقطت الأقنعة. ما زلنا الطرف الصفرى من المعادلة البشرية.