محال أن تزرع قمحا فتجنى بصلا كذلك من سابع المستحيلات أن تتناقض أفعال المسلمين مع ما يأمر به الإسلام إلا إذا كان ما زرعناه خلال مراحل النمو المختلفة وأثناء تربيتنا لأولادنا خلاف ما يريده الإسلام الصحيح، فنشأ الانفصام والازدواجية، ذلك المرض الخبيث الذى أصاب الإنسان المسلم وجعله يتصرف كشخصيتين مستقلتين تماما والعلاج ليس لدى علماء النفس أو الاجتماع، وإنما لدى من بيدهم توجيه الخطاب الدينى أنفسهم، فماذا ننتظر من وراء خطاب دينى يريد قوالب لا قلوبا، يغذى فى نفوس العباد النزعة الظاهرية من شكل ولباس وهيئة ومحافظة على الصلاة فى أوقاتها فى الوقت الذى يتغاضى فيه عن ذهابهم المتأخر إلى أعمالهم وتعطيلهم لمصالح إخوانهم ويتساهل مع الأغنياء فى عدد مرات الحج والعمرة ما داموا قادرين ولا يحثهم – تفعيلا لفقه الأولويات – على بناء المدارس والمصانع وتزويج الفقراء، وقديما كنت أرى أئمة المساجد فى بلدتى يجمعون التبرعات لبناء المدارس أو لبناء مشغل تتعلم فيه الفتيات أعمال الخياطة والتطريز للمساعدة فى زيادة دخل أسرهن بالرغم من أنه لم يكن يوجد ببلدتنا سوى أربعة مساجد تمتلئ عن آخرها بالمصلين وكنيسة قائمة فى أمان الله بجوار المسجد الكبير، أما الآن فالسائد أن ترى على الطريق من يستوقفك للتبرع لبناء مسجد أو زاوية فى جزء مقتطع من طريق عام سيؤدى بناؤه إلى إعاقة الحركة المرورية أو على رأس أرض زراعية لإدخال المرافق إليها ثم بيعها بعد ذلك بالمتر، فهى مساجد لم يرد بها وجه الله ولن تؤدى إلا إلى تفرق المصلين وشرذمتهم فكل مسجد يضم بالكاد عشرة مصلين بدلا من امتلائه عن آخره، وقت إن لم يكن بين كل مسجد ومسجد مسجدا، إن الخطاب الدينى يجب أن يركز على المعنى الحقيقى للعبادة التى يريدها الله منا فالله جل فى علاه لا تنفعه طاعتنا ولا تضره معصيتنا، وإنما الذى يجب أن ينتفع بالعبادة هم نحن ولن يتأتى ذلك إلا إذا أثمرت عباداتنا الثمرة التى يريدها الله منا تلك التى يعود نفعها على غيرنا من البشر وعلى الكون المخلوق لله.
إن الله لا يقبل صلاة من لم تنهه عن الفحشاء والمنكر، ولا يقبل صوم لعّان أو مغتاب أو نمّام، ولا يقبل صدقة أريد بها غير وجهه سبحانه وتعالى، وبالعكس فإنه تعالى يعتبر تبسم الرجل فى وجه أخيه صدقة يقبلها إن كانت بإخلاص ونية حسنة، واللقمة يطعم بها الرجل زوجته وأولاده يكتب له بها صدقة، بل إن فى بضع الرجل لصدقة إن كانت النية امتثالا لأمر الله وإعفافاً للزوجة والزوج عن الحرام... وهكذا كل سلوك طيب تكون عاقبته الخير يكافئنا المولى عز وجل عليه ويقبله بمنه وفضله .
وتذكر لنا الأحاديث كيف أن امرأة كانت تصلى وتصوم وتحج البيت وتزكى دخلت النار لأنها كانت تؤذى جيرانها بلسانها، وأخرى دخلت النار فى هرة عذبتها فلا هى أطعمتها ولا هى تركتها لحال سبيلها تأكل من خشاش الأرض، وعلى النقيض من ذلك فقد ذكرت الأحاديث ذلك الرجل الذى سقى كلبا فى يوم قائظ فدخل الجنة.. وفى الحديث من ولى من أمر الناس شيئا فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عن حاجته وخلته وفقره يوم القيامة، فما نريد أن يفعله الله معنا يوم الحساب يجب علينا أن نفعله مع خلقه فمحصلة الدين الحقة هى سلوك وتصرفات المؤمن بهذا الدين .
وكل الأديان لا تدعو إلا إلى الحب والإخاء والتكافل ونبذ العنف.. وعلى ذلك وصفت السيدة عائشة رضى الله عنها الرسول (ص) بأنه كان قرآنا يمشى على الأرض، ولم يثبت عن النبى (ص) أنه آذى ذميا أو حتى مشركا بل كان يتحمل الأذى من بعضهم أما القتال فلا يقره الإسلام إلا دفاعا عن دين أو عرض أو أرض .
والله يغفر للعبد ذنوبه التى ارتكبها فى حقه، لكن لا يغفر الذنب الذى يعود بالشر على أحد من خلقه أيا كان دينه ما لم يتنازل لأخيه عن حقه.. لذلك فالعارفون بالله يعتبرون ظلم الظالم وأذى المؤذى رؤية للنفس ومزاحمة لله فى القلب الذى يجب أن يكون مملوءا كله بالله، واعتبروا ذلك من الشرك الخفى الذى هو أخفى من دبيب النمل.. إن ما على الخطاب الدينى - إذا ما أردنا القضاء على هذه الازدواجية فعلا - أن يتوجه إلى القلوب - لا القوالب - فيخليها من أمراضها ثم يحليها بعد ذلك بحب الله وما يحبه الله منا، وأن يكون قدوتنا فى كل ذلك سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه وآل بيته، فما لا يخرج من القلوب لا يصل إلى القلوب.