مَن مِنا فى صغره لم يخطر على باله أن يجد ذلك الفانوس السحرى الذى كثيراً ما سمعنا عنه فى القصص الخيالية والروايات الأسطورية، والذى طالما حلمنا أن نجده فنطلب ونتمنى لتتحقق تلك الأمنيات الصغيرة والتى كنا نحسبها من المستحيلات.
فها هو شهر رمضان كان يلبى لى تلك الأمنية وسرعان ما أجد الفانوس بيدى وقد أتى به أبى ليقول لى هذا “فانوس رمضان” وكل ما يُخيل لى حينُها أن هناك شخص يُدعى رمضان وهو مَن يُهدينى هذا الفانوس فى كل عام، وما كان يتركه من فرحة وبهجة فى نفسى ولمن يَحْمِلنهُ من مثيلاتى جعله فى نظرى فانوس سحرى يحقق لنا السعادة..
و لكن سرعان ما تمر الأيام، ومع مرورها نتغير ويتغير كل ما فينا، بدايةً من أحلامنا الصغيرة وحتى مواقفنا تجاه الأشياء وتأخذنا دوامة الحياة لنجد أنفسنا غارقين فى مسئوليات وضغوط قد تجعلنا نخرج عن المسار فنخطئ أحياناً ونغفل أحياناً أخرى عما خُلقنا من أجله، فإذا أردنا العودة إلى أنفسنا لنصحح ذلك المسار ! فلن نجد ما يُعيدنا إلى سيرتنا الأولى وتلك الفطرة، حتى ولو كان هناك بالفعل “فانوس السحرى” !
فقد أصبح عندنا من النضج والوعى ما يجعلنا نعلم من أين كانت تأتى السعادة فى تلك الأيام، هى فى الحقيقة نفحات ربانية يرسلها ربى فى أيام مباركة بين الحين والآخر لتعود فيها إلينا أنفسنا الشاردة وتؤوب إليه، ملبية نداء ياااباغى الخير أقبل.. وما لنا ألا نقبل !
فقد رَقَ القلب شوقً لتلك النسمات الرقراقة التى تأتى مُحملةً بأيامٍ وليالٍ مِلؤها الرحمة والعتق والمغفرة، وما إن ترحل إلا وهى تاركة فينا من الذكريات ما يجعلها باقية طيلة العمر وحتى آخره.
نعم ستبقى بداخلنا محفورة للأبد وكيف لا تبقى وهى من أجمل اللحظات التى مرت علينا منذ أن كنا صغاراً ولم نكن حينها نعى شيئاً عن فضل هذا الشهر الكريم سوا الفرحة التى نراها وقد مُلئت بها البيوت فور إعلان أن “اليوم هو المتمم لشهر شعبان وغداً أول أيام شهر رمضان”.. فها هى الدنيا تتبدل، فتنير سماها وتُشع أرضُها، فتتلألأ ليست فقط بأنوار فوانيس الصغار ولكن بروحانيات ملئت القلوب والأنفس فطغت على الوجوه والروح، وها هم الشباب يتسارعون فى مشاركة إعداد الزينة والمصابيح، لتتبدل الشوارع هى الأخرى فتصبح وكأنها مدينة من مدن السعادة التى نسمع عنها فى الحكايات، وما إن يرفع الآذان الأول لصلاة التراويح فنجد الأهل والأصحاب مجتمعين وتُملأ المساجد برجال ونساء لا تلههم تجارةً ولا أمر من أمور الدنيا كما هو المعتاد عن ذكر الله، فالكل مستعد والكل يسعى ليلتمس وينغمس فى تلك الرحمات التى طالما انتظروها، وكأن هذا الشهر الفضيل بمثابة الناقوس الذى يدق على أبواب القلوب لتصحوا وتستفيق من غفلتها متأملة فى رحمة ربها العفو والغفران.
فما أراه من تغير قد حل بنا بعدما أخذتنا الحياة ومشاغلها لم يكن قاصراً فقط على الإحتفالات بهذه المظاهر الرمضانية التى اعتادنا عليها ! ولكن أيضاً أصابنا التغير من الداخل، فأصبح الكثير منا مقصرين وإن كان أكثرنا من الغافلين عن فضل هذه العبادات والطاعات، وقَلَ توادونا وتراحمنا فى تلك الأيام المباركات، واستبدلناها بالاستعداد للولائم والسهرات، والإقبال على ما تشتهى الأنفس من برامج ومسلسلات، وأصبحت مواقع التواصل الاجتماعى هى ملتقى الأهل للتهنئة والمعايدات.
نعم اختلفنا ! ولكن ما تَخَلفنا، فإذا كان التغيير سُنه كونية فعلينا أن نجعل منه نعمة وليس نقمة تَحُولُ بيننا وبين الله، حينها سنكون ظالمين لأنفسنا إن لم نتمسك بهذة النفحات الربانية التى بها نقترب ونُقبل على الله، وبِها يُتقبل منك كل ما نرجوه ونبتغى، فرمضانُك هنا هو فانوسك السحرى وما علينا سوا التقرب والدعاء، وهذة المرة المُلبى هو رب السماء، وهل هناك أجمل من الوعود الربانية التى تجيب النداء !
فقط تطلع إلى السماء واغمض عينيك وأطلق العنان لروحك المشتاقة لتسبح فى ملكوته، وناجيه بأعلى همساتك، شاكياً إليه نفسك وشرودها وأعلن من هنا من داخل روحك بأنه “قد آن يارب”.. هنا ستسكن روحك ويطمئن قلبك، وهنيئاً لك الشهر الكريم فأنت على أعتاب المغفرة فلا تجعل من العبادة عادة ،،“اسجد واقترب” واخلص فى الإنابة، لتكن فى الدنيا والآخرة من أصحاب السعادة.