أسماء راغب نوار تكتب: أيهما أجدى العلوم أم الآداب؟

لى أخ يكبرنى بعامين التحق بالقسم الأدبى فى الثانوية العامة وقد التحقت بالقسم العلمى بعده، وكانت دائمًا ما تنشب بيننا صراعات تدعمها أنماط من الجدال والنقاش الذى لا ينتهى وكانت تفرض علينا أمى حظر الكلام عندما يصل النقاش إلى حد الاحتدام إلى أن نُغيِّر موضوع النقاش ونفتح موضوعًا آخر يؤلف بيننا، وكان حظر الكلام فى أغلب الأحيان عصيًّا علينا فكلانا كان يشحن للآخر ويود الانتصار لرأيه، وكان الوقت هو العامل المؤثر فى تهدئة الجو فيصمت كلانا على مضض إذعانًا لقرار ماما، حتى تفرغ نفوسنا من الاحتقان كما يفرغ البالون من الهواء.

ومن بين النقاط التى كانت تشعل فتيل الصراع إصرار أخى ومحاولته إقناعى بأن المواد الأدبية أهم وأعلى قيمة من نظيرتها العلمية ؛ وكنا نتقارع بالحجج والبراهين : هو يقول: "ألا تدركين أهمية علم النفس والفلسفة والأدب؟!".

فأرد عليه: "ألا تدرك أهمية علم الأحياء والكيمياء والفيزياء؟!".

هو يقول: "قد لا يستطيع الإنسان النوم إذا كانت تشغله قضية فكرية، فهو بحاجة إلى رأى مفكر أو أديب أو فيلسوف ليشاركه ما يشغله؛ ومن ثم يرد حيرته".

فأرد عليه: "وربما لا يسع الإنسان أن يحيا بدون الطبيب؛ فيُحرم النوم أيضًا من شدة الألم".

ثم يعود فيقول لي: " قد لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون الأديب أو الشاعر الذى يغذى روحه".

وأرد عليه: "وقد لا يستطيع أن يعيش بدون المهندس الذى يخترع الأدوات التى تيسر له متطلبات حياته".

وهكذا يدور النقاش بيننا إلى أن يحتدم ويدافع كل منا عن رأيه باستماتة ومن ثم تضيق أمى بنا وتعاقبنا بفرض حظر الكلام.

وبعدما حصلت على الثانوية العامة وعند كتابة الرغبات وددت لو ألتحق بكلية العلوم، لكن أمى أبت ونصحتنى بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية زاعمة أن هذه الدراسة تتوافق معي، فخضعت لرغبتها؛ الأمر الذى أدهشنى من نفسى بعد إعلامى بقبول كلية الآداب أوراقي، فحاولت مرات ثلاثًا تحويلها إلى كلية العلوم، لكن أبى الله إلا أن أُكمل بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية.

ولا أخفى عليك يا قارئى العزيز أنه بعدما انتظمت الدراسة فى الكلية وتلقيت محاضراتى الأولى أدركت أن أمى أدرى بى منى فقد جذبتنى الدراسة وجننت بها وراح اهتمامى بالمواد العلمية يتلاشى شيئًا فشيئًا إلى حد النسيان.

ولما تعمقت فى الدراسة رأيت أن من مظاهر اكتمال الإنسانية أن أعترف لأخى بأننى كنت مجحفة فى تقييمى للمواد الأدبية، وأننى قد لمست أهميتها وقيمتها.

تضاحك ثم قال: "دائمًا ما أسبقك فكريًّا".

اغتظت من رده فقلت: "كنتَ حريًّا بأن تكون كذلك لو أخبرتنى أن الاثنين سواء فى الأهمية وقت اختلافنا".

فابتسم ثم قال: "نعم.. الاثنين لسواء فى الأهمية".

وبعد مرور أكثر من خمسة عشر عامًا على هذه النتيجة تعرَّفت مؤخرًّا إلى كاتبة، دار بيننا حديث وجدنا خلاله أن بيننا أرضية مشتركة فى الميول وطريقة التفكير بجانب نشاط الكتابة وما يكتنفه من متاعب تذهب النوم وتشغل البال فى أحيان كثيرة، ولما أمعنا فى التعارف وجدتها تفضى إلى باعتراف خطير زاد من الأرضية المشتركة بيننا فقالت لي: "أتدرين يا أسماء؟.. لقد كنت حمارة.. كنت أعتقد أن المواد العلمية أهم من الأدبية.. ولذلك التحقت بالقسم العلمى فى الثانوية العامة وبعدها التحقت بكلية الهندسة.. وبعدما قدر لى الله الشروع فى نشر ما أكتب أصبحت أطلع على المواد الأدبية فوجدت أنها أوسع مجالًا وأعلى استهلاكًا للطاقة الذهنية ".

وما كان مِنِّى إلا أن أخبرتها بأننى لا أعجب لما توصلت إليه من نتائج بالتجربة لأننى ببساطة "كنت ذات الحمارة!". فنسبة المواد الأدبية إلى المواد العلمية كنسبة الروح إلى الجسد لدى الإنسان، ونحن بحاجة إلى من يعالج الجسد إذا اعتل ومن يسرِّى عن الروح إذا ضاقت؛ إذًا فكلتاهما تكمل الأخرى.

ومن ثمَّ شرعتُ أفكر من أين أتى هذا المفهوم الضحل عن المواد الأدبية - ذلك المفهوم الذى كان يشعل الصراع بينى وبين أخي، فانتهيت إلى أنه مفهوم موروث لدينا على كل المستويات بدءًا من المستوى الرسمى الذى لا يكفل التقدير المادى والمعنوى اللازمين لكل من يخدم الإنسانية معنويًّا ووصولًا إلى مستوى الأسرة؛ أعنى الآباء ورؤيتهم لدور الكاتب أو المفكر أو الأديب أو الفيلسوف وما إذا كان يرقى إلى أن يتمنوا لأبنائهم أن ينهضوا به، فهم يرون أنها ليست بالمهن التى يُحدد لها رواتب تكفُل لأصحابها عيشة كريمة، وأذكر أننى عندما شرعت فى نشر ما أكتب أخبرتنى كاتبة شابة إننى لن أعانى معاناة من أتخذ من الكتابة وسيلة لأكل العيش ما دامت لى وظيفة.

ومن أسباب عدم تقدير الأديب أو الفيلسوف أو الشاعر ماديًّا – فيما أرى – فى أى أمة يرجع إلى عزوف أغلب أفرادها عن القراءة؛ فهؤلاء أقلامهم وأفكارهم هى سلعتهم، وما أثمنها سلعة ولكن باعتبارى قارئة.

فإذا ازدهرت القراءة راجت سلعهم وكان لهم عائد مادى يحفظ لهم حياة كريمة وتقديرًا معنويًّا واسع يشجعهم على الإتيان بالمزيد مما لديهم، وبالتالى تمنى الآباء لأبنائهم أن يصبحوا أدباء أو فلاسفة أو شعراء أو مفكرين بجانب أمنياتهم أن يصبحوا أطباء أو مهندسين وأن لهم الخيرة فى ذلك.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;