بدأ الوجود البشرى، بخلق آدم عليه السلام، بغير أب، ولا أم. ولحكمة ما، خلق الله حواء من ضلع آدم. ثم جعل الله بينهما مودة ورحمة. والمودة والرحمة، من المحبة والوئام، وهى حالة من الانسجام، التى تنجم عن الاحتكاك الاجتماعى، والعاطفى، الذى يفضى إلى التواد والتواصل. وجعل الله من حواء سكناً لآدم.
والسكن من السكون، والسكينة، والهدوء، والطمأنينة، والراحة. وقد ربط الله بينهما برباط الإحتياج المتبادل بين الطرفين، حتى يحفظ الوجود البشرى بالتجدد الدائم بطريق التناسل. ولم يقف الأمر عند حدود إشباع الحاجة الجنسية للطرفين، وإنما جرى تغليف هذه الحاجة بمشاعر، وأحاسيس، وعواطف، تهذبها وترققها وتجعلها محببة إلى النفس غير منفرة. فالعاطفة ميل وشفقة وحنو ورقة، وهى استعداد نفسى ينزع بصاحبه إلى الشعور بانفعالات وجدانية خاصة والقيام بسلوك معين حيال الطرف الآخر. تلك فطرة الله، التى فطر الناس عليها. إذن فالقضية فى العلاقة بين الرجل والمرأة ليست جنسية فحسب، وإنما احتياجات أخرى للطرفين تسبق العملية الجنسية، وتصاحبها، ولا تنتهى بنهايتها. ومن هنا يمكن القول بلا تردد أنه لا غنى للرجل عن المرأة، ولا غنى للمرأة عن الرجل، ولا وجود للجنس البشرى إلا بوجود قطبيه. ولم يجعل الله الجنس بين الناس على المشاع، كبقية المخلوقات التى تتكاثر، وإنما قننه ووضع له الضوابط التى تضمن عدم الشيوع فى الأنسال، فتصير البشرية إلى مجتمعات من القبائل والشعوب. ولبيان طلاقة القدرة الإلهية فى الخلق، خلق من عدم، ثم خلق بغير أم وأب، ثم خلق من أب بغير أم، ثم خلق من أم بغير أب، ثم خلق من أم وأب، حتى ندرك أن القضايا فى الخلق ليست ميكانيكا تؤدى دورها دون تدخل من الله. ثم قضى أن يكون التناسل عن طريق إجتماع ذكر وأنثى، ثم لبيان طلاقة قدرته، وهب البنين والبنات، ثم وهب البنين فقط، ثم وهب البنات فقط، ثم جعل من يشاء عقيماً، فهى كذلك ليست ميكانيكا. وصارت البشرية على ذلك قروناً عديدة، حتى جاء عصر العلم، وبدأ العبث فى الجينات الوراثية فى المعامل، وظهور ما يعرف بطفل الأنابيب، للقضاء على حالة الحرمان من الأولاد، التى تعانى منها الأسرة. وهى عملية يتم فيها التلقيح خارج الرحم. ثم ظهرت فى الغرب ظاهرة غريبة تعرف بظاهرة تأجير الأرحام. فهناك من السيدات من يقمن بتأجير أرحامهن للرجال، كى ينجبن أطفالاً لهم، لقاء مبلغ من المال، محققين بذلك حلم الإنجاب، دون الالتجاء إلى المرأة، أو الارتباط بها بشكل رسمى، أو الزواج منها. إنه نوع من التحلل من الالتزامات الزوجية، وما يترتب عليها من التزامات، خاصة فى المجتمعات التى تشيع فيها الممارسات الجنسية المفتوحة، خارج الإطار الشرعى أو الرسمى. وقد نتفهم ذلك فى الإطار النفسى، الذى يسعى إلى إشباع حاجة الأبوة، دون أن يكون ذلك مرتبطاً بالتقيد بحياة زوجية مغلقة، ومقيدة بزوجة واحدة، دون قدرة على الفكاك، دون الأسباب المحددة، التى يصعب تحققها فى جميع الحالات، إلا أن ذلك لا يعد المسلك الطبيعى فى مواجهة المشكلة، وهو وإن كان فى ظاهره حلاً، يخدم البعد الفردى الأحادى، إلا أنه يزيد من تفاقم المشكلة الاجتماعية، لأن الطرف الآخر للمعادلة فى حاجة ملحة إلى إشباع حاجته هو الآخر. وكل ذلك يدفع فى اتجاه تحلل الخلية الأولى للمجتمع وهى الأسرة. وتحلل الأسرة يتهدد الوجود البشرى الإنساني. وهكذا تندفع البشرية فى طريق وعر إلى منزلق خطر قد يصل بها إلى الانقراض والفناء. وليت الأمر توقف عند تلك الحدود، حتى يلوح فى الأفق، ما يعالج ذلك الخلل فى الوجود الإنسانى. وإنما تندفع البشرية فى جنون غير مسبوق نحو حتفها، عندما تتجاوز التكنولوجيا الحدود الأخلاقية الواجبة، وتسعى بدأب إلى تجاوز كافة الحدود دون تلك القيود أو الحدود. فعكفت منذ سنوات على حرق العلاقات الإنسانية والاجتماعية بمحاولتها خلق ما يعرف بالريبوت البشرى، وقد نجحت فى ذلك نجاحاً مبهراً، وإن كان على حساب الوجود الإنسانى فى الصناعة. ثم تجاوزت حدود الصناعة إلى داخل البيوت للقيام على رفاهية وخدمة الإنسان، حتى فى أدق تفاصيل الحياة اليومية، إلى حد إمكانية الاستغناء عن العنصر البشرى فى الخدمة، وقد وصل الشطط إلى حد الحلول محل الأنثى فيما يتعلق بالأنشطة المنزلية المعتادة. ثم ذهب الجنون إلى مداه حين عكفت التكنولوجيا على مدار السنوات الماضية فى محاولة لمزاحمة المرأة فى العلاقة الحميمية، عن طريق صناعة الربوتات الجنسية، كى تحل محل الأنثى، ويتنازل العالم تدريجياً عن المرأة. ومع مرور الوقت ستقتحم التكنولوجيا مجال صناعة بديل الرجل فى العلاقات الحميمية. وهكذا تسلك البشرية طريق الفناء، لأنها تدمر الأساس الذى قام عليه الوجود البشرى، والفتك بسر الحياة. وهذه دعوة للفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة والأخلاق وعلماء الدين للتدبر، والتفكر فى الأمر، فى محاولة قد تنجح لوقف هذا الهوس التكنولوجى، وهذا الجنون البشرى المتفاقم، ووضع ضوابط أخلاقية منضبطة للبحث العلمى، والعمل داخل معامل البحث، وكما يعملون الآن من أجل وقف تصنيع أسلحة الدمار الشامل، فإنه يلزم وبذات القدر وقف هذا العبث بمستقبل البشرية، فهل نحن فاعلون ؟!.