ازدادت قتامة اللون الأزرق الذى اكتسى به جسد الطفلة النحيل، منذرا باقتراب تمكن الموت من هذه النبتة البشرية التى لم يمهلها الوقت أن تزهر. لقد ولدت "صبا" تلك المولودة الجميلة وجسدها الصغير يئن بمرض يخنق خلاياه كى يسلبها الحياة. قال طبيب المدينة العجوز أن الصغيرة تعانى من عيب خلقى فى قلبها الوليد وأنه لا يستطيع بما أوتى من علم أن ينقذ حياتها. اعتصر الألم قلب والدها الذى ود لو هجر ضلوعه ليحل بين ضلوعها فيمنحها فرصة جديدة للحياة. وقبل أن يهم الرجل بالمغادرة حاملا فلذة كبده المريضة، دخل إلى حجرة الطبيب شاب يلهث، لا يستطيع التقاط أنفاسه المتلاحقة، متلهفا إلى قول شىء يبدو خطيرا ولكن أنفاسه لا تسعفه حتى يستطيع أن يخرج الكلمات من فمه.
أسرع الطبيب العجوز إلى الشاب اللاهث وربت على كتفيه قائلا:
"التقط أنفاسك يا بنى" بينما عيناه تتسعان تساؤلا ولهفة تريدان أن تسألاه عن الخبر الخطير الذى قد جاء به.
كان هذا الشاب هو أحد تلامذة طبيب المدينة العتيق وهو أقرب مساعديه إليه. استطاع بعد أن التقط بعض أنفاسه أن يصيح مخبرا أستاذه فى حماس وفرحة:
"لن تصدق يا سيدى.. لقد جئتك بخبر من مختبر عالم الفلك المجنون".
تعلقت أنظار الطبيب والأب به دون أن يحاولا أن يقاطعاه، ثم استطرد قائلا:
"إنها تلك العاصفة النيزكية المباركة التى حدثتنا عنها مخطوطات أجدادنا القدماء.. لقد عادت من جديد لتزور مدينتنا بعد أكثر من ألف عام".
لازال الطبيب العجوز ينظر إليه فاغرا فاه، بينما ينتقل الأب بعينيه المتسائلتين بين الطبيبين لعله يستطيع أن يفهم ما الأمر. ثم صاح العجوز بتلميذه:
" أمتأكد هو؟!!!.. كيف ومتى ستأتى؟.. أجبنى".
ابتلع الشاب ريقه قائلا:
"نعم الخبر مؤكد والرجل فى مختبره قد ازداد جنونا أكثر مما كان عليه وأمرنى أن أخبرك أنه قد استطاع بالفعل أن يستطلعها وأن علينا أن ننتظرها خلال ليلتين".
قفز العجوز بفرحة وكأن روحا خفية قد دبت فى أوصاله المتهالكة، والأب ينظر إليهما ولا يفهم ماذا يعنى هذا الخبر العجيب.
ثم صاح العجوز بتلميذه وهو يحاول أن يستجمع شيئا من جديته:
" فلتعلمهم أن يجمعوا جميع مرضى المدينة استعدادا للعاصفة المباركة"
صاح بهما الأب محاولا أن يستفهم ما الأمر وما علاقة تلك العاصفة بالمرضى وما سبب هذه الفرحة. فى هذه اللحظة بدأ الطبيب العتيق أن يدرك مجددا تواجد الطفلة ووالدها، فحاول أن يستجمع شيئا من وقاره وهيبته ثم قال بجدية لا تخلو من الحنان والتعاطف:
"هذه ظاهرة لا تتكرر إلا كل ألف عام، لم نعرف عنها سوى من مخطوطات أجدادنا القدماء. هى نيازك مباركة يرسلها لنا الإله الواحد الأعظم تحمل معها معجزات من لدنه وبركات يرسلها إلى الأجساد المريضة فيصيب برحمته من يشاء منها فتعود صحيحة".
تلعثم الأب وهو يرى يد الله تمتد إليه لتنقذ ابنته من المرض، قائلا:
- "صبا يا سيدى.. هل ستشفى ابنتى صبا بهذه الظاهرة المباركة؟ "
صمت العجوز لبرهة، ثم قال:
"علميا لا نستطيع أن نجزم إذا ما كانت النيازك المباركة ستختار ابنتك أم لا، ولكننى أوقن أن إلهنا الرحيم لن يخذل نظرة الأمل التى أراها فى عينيك الآن".
ثم استطرد قائلا:
"ما جاءت به المخطوطات القديمة أن العضو المريض تصيبه بركة مضاعفة عن سائر الأعضاء، حيث أصابت الظاهرة المباركة ذات مرة جسد مريض مصاب بالشلل فصار يمتلك قوة هائلة فى أطرافه وقيل أن هذا الرجل هو الذى قام وحده بحمل الأحجار أثناء بناء المعبد الأكبر الموجود حاليا فى وسط المدينة. وتشير المخطوطات أنه فى حالات أمراض القلوب تحديدا يعود القلب ببركتها إلى خضاره الغض ولا يلوثه غبار السنين ولا تغيره قسوتها".
جاءت الليلة المنتظرة حيث جمع مرضى المدينة فى ساحة المعبد الأكبر ثم أقبلت العاصفة النيزكية المباركة توزع الشفاء على أجساد أرهقتها الأوجاع واختارت قلب "صبا" لتهمس فيه "لقد جئنا من أجلك أنت وبسببك أنت جاء الشفاء إليهم اليوم". لملم اللون الأزرق قتامته وكآبته راحلا عن جسد الطفلة لتشرق بخلاياه الحياة من جديد. كم بدا جميلا هذا الوجه الصغير والشمس تطل من ثغره المبتسم لتعانق الأمل.
مرت السنون وقلب "صبا" الغض الأخضر لا يتغير ولا يقسو ولا يشيب، يفوح بعبير البراءة التى تستكين إليها وحوش القفار ولكنه – كعادة القلوب الغضة - كان الأوفر حظا فى تجرع مرار الخذلان وطعنات الغدر والحقد. ضاقت الفتاة الطيبة بالآلام فتناولت بيدها خنجرا زادته دموع عينيها المنهمرة عليه لمعانا ثم وجهته إلى قلبها لتخلصه من الألم نهائيا ولكن شيئا لا يمكن تصديقه أبدا قد حدث. لقد قبّل الخنجر خضار قلبها ثم انحنى تقديسا له فإنه لا يستطيع أن ينفذ إلى هذا القلب بسوء أبدا.
أشرقت الشمس من ثغر "صبا" الباسم لتعانق الأمل من جديد وإلى الأبد.