أثارت ظاهرة الفساد جدلا واسعاً على مستوى دول العالم، واستشرت ظاهرة الفساد واستفحلت بشكل كبير وكان لها عظيم الآثر على الاقتصاد القومى للدول ليس فقط الدول النامية ولكن أيضا كان له أيضاً أثرا سلبيا على اقتصاديات الدول المتقدمة. وقد اختلفت وجهات النظر فى التوصل إلى وضع تعريف لمفهوم الفساد ويرجع هذا الاختلاف إلى تشعب واختلاف النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على مستوى دول العالم، إلا أن البنك الدولى قد وضع تعريفاً للفساد يمكن الاسترشاد به فى محاولات بعض الدول إلى وضع تعريف لمفهوم الفساد وتحديد نطاقه، حيث عرف البنك الدولى الفساد بأنه" إساءة استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة"، كما أن اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد التى تم التصديق عليها عام 2003 قد حددت بعض من الأفعال التى إذا ما ارتكبت أُعتبرت من قبيل أعمال الفساد ووجب العقاب عليها، كما الزمت الدول الأطراف باتخاذ التدابير اللازمة بمنع إتيان مثل هذه الأفعال الواردة بالاتفاقية.
وفى معرض الحديث عن تعريف الفساد وفقا لتعريف البنك الدولى وما نصت عليه الاتفاقية الدولية من أحكام، نود الوقوف على استغلال أصحاب المناصب العامة لمواقعهم الوظيفية من أجل تحقيق أغراض نفعية لأنفسهم أو لغيرهم وممارسة كافة أنواع وأشكال الفساد. فللفساد أنواع وأشكال مختلفة، وينقسم الفساد من حيث الحجم إلى فساد كبير "Grand Corruption" وفساد صغير "Petty corruption" ويقصد بالفساد الكبير هو الذى يمارس من قبل كبار الموظفين المسئولين وغالباً ما يكون المقابل فيه كبيراً وهو ما يطلق عليه "الاستيلاء على الدولة "State Capture"، أما الفساد الصغير هو الذى يقوم به صغار الموظفين والمسئولين وغالبا ما يكون المقابل فيه ضعيفاً، كما ينقسم الفساد من حيث القطاع الذى يحدث فيه إلى فساد ادارى وفساد سياسى وفساد اقتصادى وفساد مالى.
ويتمخض عن هذه الأنواع المختلفة للفساد أشكالا أخرى للفساد وبالتحديد داخل أروقة الجهاز الادارى للدولة وهو ما أود تسميته بمصطلح الفساد العميق ويتميز هذا النوع من الفساد بأنه غير ملموس وغير معاقب عليه قانوناً، ونود هنا الإشارة إلى بعض من مظاهر الفساد العميق والمتغلغل داخل الجهاز الادارى للدولة، فى محاولة للوقوف على مدى تأثير مثل هذا النوع من الفساد على مسيرة الإصلاح الادارى المزعوم الذى تنشده الدولة والتى بدأت أولا بتقليص مرتبات العاملين بالحكومة عن طريق قانون الخدمة المدنية الجديد وما يتضمنه من أحكام تهدد الوضع الوظيفى للعاملين بالقطاع الحكومى قد ينتهى بتقليص عدد العاملين بالدولة، فمن مظاهر الفساد العميق داخل القطاع الحكومى تواجد عدد لا بأس به حتى الآن بالجهاز الادارى للدولة ممن بلغوا السن القانونية للمعاش أو ما يطلق عليهم الخبراء أو المستشارين الإداريين أو الماليين، ويفضل البعض تلقيبهم "بكبار السن"، فما زال الجهاز الادارى للدولة يعج بهذه الفئة التى تقف حجرة عثرة فى سبيل إعداد الكوادر الشبابية من العاملين بالقطاع الحكومى ممن لديهم إرادة حديدية وعزيمة قوية وطموح مشروع فى تقديم كل ما هو جديد من مقترحات وآراء ومبادرات حقيقية التى تستهدف فى مجموعها مصلحة منظومة العمل، وذلك إذا ما أردنا استهداف تمكين الشباب وتقليدهم المناصب القيادية عن طريق إعدادهم إعداداً صحيحا.
فعلى الرغم من التهميش الذى تعانيه الكوادر الشبابية داخل الجهاز الادارى للدولة، فلم يسلموا من المكائد التى تنصب إليهم من قبل فئة ما يطلق عليهم الخبراء، عن طريق تضييق الخناق عليهم ومعاملتهم معاملة سيئة لدرجة الوصول إلى مرحلة اليأس والدخول فى اكتئاب دائم ونفسية خربة وعدم القدرة على مواصلة العمل، حتى أصبح الذهاب للعمل بالنسبة لهؤلاء الشباب كأنه ذهاب إلى السجن ينتظر انتهاء الوقت الرسمى للعمل ثم ينطلق مرة أخرى حر طليق، ومن زاوية أخرى تبخل فئة الخبراء- ممن تجاوزا السن القانونية للمعاش- على الكوادر الشبابية التى تعمل تحت قيادتهم بخبراتهم العملية التى اكتسبوها فى مجال عملهم والتى تتجاوز بالنسبة لهم حوالى الأربعين عاماً سواء فى مجال العمل الادارى أو المالى أو حتى الفنى، وذلك بهدف تفشيل هؤلاء الشباب وكبح جماحه، وتكون هناك ضرورة ملحة دائماً لاحتياجهم وكأن العمل سوف يتوقف طالما لم يتواجدوا على رأس المناصب العامة فى الجهات التى يعملون بها بعد بلوغهم سن المعاش، وبذلك تظهر امامنا مشكلة إعداد الكوادر الشبابية واتهامهم دائما بعدم القدرة على تحمل مسئولية العمل وحمل راية الإدارة.
كما أن من مظاهر الفساد العميق بالجهاز الادارى للدولة المبالغة بشكل كبير فى الاعتماد على بعض العاملين المنتدبون والمعارون من الجهات الإدارية المختلفة بدعوى ان هؤلاء لديهم من الخبرات العملية ما يؤهلهم للعمل بالجهات التى تطلب الاستعانة بهم، فلا بأس فى الاستعانة بهؤلاء فى أضيق الحدود لحين تأهيل الكوادر الشبابية الموجودة بجهاتهم، وأيضاً تكون هذه الاستعانة محددة المدة والعودة مرة أخرى إلى جهة العمل الأصلية دون تجديد هذه الاستعانة، ومن ناحية أخرى يرجع السبب الرئيسى فى الاعتماد على هؤلاء العاملين إلى عدم تمتع الكوادر الشبابية المنتمين فعلياً لجهاتهم لثقة الإدارة العليا، وعدم قدرتهم على القيام بالأعباء الوظيفية التى سوف يكلفون بها من قبل الإدارة، ولكن هذه أسباب واهية يقصد منها إيراد كوادر مستعارة تفى وتنفذ ما يطلب منها دون مناقشة أو مماطلة، حتى لو على حساب ومصلحة جهة العمل والعاملين بها.
تلك هى مظاهر الفساد العميق المتأصلة داخل الجهاز الادارى للدولة أثرت التعرض لها وتفنيدها، وأطالب السلطة التشريعية ممثلة فى مجلس النواب فى وضع تشريعات صارمة خاصة بمكافحة الفساد وتقلل ومن ثم تمنع مثل هذه المظاهر من الفساد التى تمثل من وجهه نظرى العمود الفقرى لانتشار مظاهر وأشكال الفساد الاخرى المتعارف عليها، وذلك إذا ما اردنا بناء دولة قوية بمؤسسات قادرة على خدمة أبناء شعب مصر.