عندما خلق الله تعالى الإنسان خلقه فى أحسن تقويم، فكان التكريم والتفضيل على سائر المخلوقات، وكان الاختصاص بالعقل والتفكير أهم ما ميزه به، وأسبغ عليه النعم ظاهرة وباطنة، وتحقق له غاية التكريم بأن أصبح خليفة لله تعالى فى الأرض، فقال تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا".
ونظرًا لهذه المكانة العظيمة التى اختص الله تعالى بها الإنسان فقد سن لها من القوانين ما يحميها، ويحفظها من أن تطالها يد السوء أو الغدر، بل حتى من نفسه، ولقد أمره الله بأن يلتزم بهذه القوانين بغية تحقيق ما خلق لأجله من تزكية لنفسه وعمارة الأرض وتحقيق العبودية لله تعالى، ولقد استمدت هذه القوانين موادها من مقاصد الشريعة الإسلامية، التى تكلفت بأن تحفظ على الإنسان دينه ونفسه وعقله وماله ونسله.
ومقاصد الشريعة الإسلامية هى جملة من الغايات والأهداف والنتائج والمعانى التى أتت بها الشريعة، والتى تهدف إلى دفع المفاسد عن الناس وتحقيق مصالحهم، قال الإمام ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد فى المعاش والمعاد، وهى عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدلُ الله بين عباده، ورحمتُه بين خلقه، وظلُّه فى أرضه، وحكمتُه الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها".
وحرمة الدماء من أعظم مقاصد الشرع الشريف، لأن شريعة الإسلام كانت أكثر حرصًا على الحياة من الموت، للدرجة التى جعلت حق الحياة للإنسان مصونًا ومقدسًا بالنصوص القاطعة والدامغة قال تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَق"، وجعلت القصاص العقوبة المناسبة والزاجرة لكل قاتل، فقال تعالى: "وَلَكُمْ فِى ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يأُولِى ٱلالْبَـٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، بل إن أول ما يقضى به بين الناس يوم القيامة فى الدماء لقول النبى صلى الله عليه وسلم: "أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة فى الدماء"، وتهون الدنيا كلها أمام إراقة دم المسلم لقول النبى صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم".
ولعظمة حرمة هذه الدماء أيضًا حرص الإسلام على أن يجعلها فى المنزلة الأعلى فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "لن يزال المؤمن فى فســــحة من دينه ما لم يُصب دماً حرامًا"؛ إذا فقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق تُعد كبيرة من أكبر الكبائر؛ حيث يعظم الجرمُ ويشتدُّ الإثم.
ولقد وعد الله تعالى القاتل بجنهم يخلد فيها أبدًا فقال عز وجل: "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً"، وحرم النبى صلى الله عليه وسلم الدماء عامة وجعل القتل من السبع الموبقات فقال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، فلم سأله أصحابه عنها ذكر منها "قتل النفس التى حرَّم الله إلا بالحق".
بمقارنة بسيطة بين مقاصد الشرع الشريف ومقاصد داعش تتضح الصورة؛ فمقاصد الشرع جاءت لتحفظ على الإنسان حياته وماله وولده وعرضه، فى الوقت التى تحصد فيه مقاصد داعش الرءوس والأموال والأنفس البرئية. ومقاصد الشرع تطمئن القلوب، أما مقاصد داعش تخلع القلوب من هول فظائعها. ومقاصد الشرع تحقن الدماء ومقاصد داعش تقتات عليها.
مقاصد الشرع كلها رحمة وسكينة وطمأنينة، ومقاصد داعش فوضى وعنف وترهيب، مقاصد الشرع يحكمها قانون إلهى مبناه العدل والرحمة، ومقاصد داعش قانونها القتل وسمتها العشوائية ويحكمها قانون الفرد فتاوى الفرد والعشوائية.
انظروا كيف وصل الإسلام بالدماء إلى هذه المكانة التى وقفت فيها أمام زوال الدينا، إعلاء لحرمتها، وحرصًا على حقنها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ونهيًا عن التفريط فيها تحت أى زعم أو دعاوى.