كأغلب البنات والأولاد كنت أقص على أمى ما يجرى لى أو ما يلفت انتباهى مما أشاهده منذ نطقت. وقد قصصت عليها ذات يوم موقفًا حدث أمامى فى المدرسة رأيت فيه أن زميلتين لى فى الفصل ضُبطتا ترتكبان جريمة الغش عند أداء امتحان، وقد ضبطهما المعلم وأخذ يوبخهما ويجرم ما فعلتاه؛ فإذا بإحداهما تخجل إلى حد البكاء ندمًا على ما صدر منها ولم تنطق بكلمة، أما الأخرى فأخذت ترد على المعلم بكل صلَف، وتنكر - كذبًا بناءً على ما رأيت بعينى - ما ارتكبت، بشكل يفتقر إلى قواعد الأدب. وانتهى الموقف بأن اعتذرت الأولى عما اقترفت وتصاعد الأمر بالنسبة للثانية بأن تم استدعاء ولى أمرها.
ولما نقلت لأمى دهشتى مما حدث ومن رد فعل زميلتى الثانية ردت على قائلة: "إن رد فعل الأولى ينم عن أنها (من بيت)، أما الثانية فاحذرى عند التعامل معها".
قالت لى أمي: "احذرى عند التعامل معها"، وأنا أقول فى نفسى ليتك يا أمى تكونين معى عندما أتعامل مع شتى ألوان البشر حتى توفرى على عناء التعرف على من أحذر عند التعامل معه ومن أكون على طبيعتى معه؛ لكنها سنة الحياة أن يقدم الآباء للأبناء عصارة خبراتهم فى الوقت الذى يعيش فيه الأبناء التفاصيل وما بها من منغصات وعذابات.
ولا أخفى عليك يا قارئى العزيز أن كلمة "من بيت" هذه شغلت رأسى أيامًا إن لم تكن سنواتٍ؛ أولًا لكثرة تكرار أمى لها متى أشادت بكل من يحسن التصرف، وثانيًا لأنها كلمة مجردة والطفل دائمًا يميل للتجسيد أكثر من التجريد، ولما فكرت مليًّا فى الكلمة وربطتها بالمواقف التى قيلت فيها وبالأشخاص الذين نُعتوا بها انتهيت إلى أن أمى تقصد من كلمة "من بيت" " من بيت الأخلاق "، وهى كلمة اختزلتها أمى وأغلب أولاد جيلها؛ لبُعدهم عن استظهار نص مرجع الأخلاق واكتفائهم بتطبيقها والتعامل بها، ولكونهم جنحوا إلى العمل بالأخلاق وتركوا القول أو التعريف بها وبأصلها ومرجعها، وهذا بالنسبة للطفل كالطائر بجناح واحد.
وبيت الأخلاق هذا تُطبق فيه أسمى معانى الإنسانية، وهو بيت جميل أنيق يُقام فوق ربوة، ويتسم سكانه بأروع الصفات لأنهم يرتدون زى الأخلاق، ومن يتقاعس عن التحلى بهذه الأخلاق أو يتهاون فى تطبيقها يسقط من أعلى الربوة ويعِش فى بيئة تقع أسفل بيت الأخلاق.
وبناءً عليه (على سبيل المثال لا الحصر):
إن الشخص الذى تتحكم فى آرائه وتوجهاته المادة، والذى يكذب، والذى يشيع الفتن بين الناس، والذى تتساوى لديه الكبائر والصغائر، والذى يشهد الزور (بأن يدعى غير الذى وقع أو يشهد بما سمع لا ما رأى)، والذى يستخف بالكلمة ولا ينزل الأمور منازلها ويختل لديه تسلسل هرم الأخلاق، والذى يخلط الهزل بالجد فى الأمر الجلل الذى يستوجب الحسم، والذى يطوع الحقائق أو يقلبها لمصلحته يسقط من بيت الأخلاق.
إن الشخص الذى يضيِّع من يعول، والذى يحقر من المرأة ويقلل من الطفل والخادم، والذى لا يكرم ضيفه أو يؤذى جاره، والذى يأكل الربا وأموال اليتامى، والذى يمنع توريث البنات أو يبخس حقوقهن أو يستضعفهن يسقط من بيت الأخلاق.
إن الشخص الذى يفتقر إلى الأدب وحسن الخلق، والذى يتجاوز حدوده ويخترق حدود غيره، والذى لا يحفظ لسانه، والذى يتطاول على أبيه أو أمه (بأى شكل من الأشكال)، وخطيب الفتنة الذى يقول ما لا يفعل ويبرر لكل منحرف انحرافه، والذى يشيع الفاحشة بين الناس يسقط من بيت الأخلاق.
فالأخلاق لا تُشترى، والكذب هو الصفة الوحيدة التى يُشترط ألا يتسم بها من يؤمن بالله والفتنة أكبر من القتل، ومن يخشى فى الله لومة لائم ليس بحُر لكنه عبد ما يخشاه، والذى يخلط الهزل بالجد فى جلائل الأمور يضيِّع حقوقًا ويدعم الباطل فيعلو ويسود.
وأخيرًا أود أن أقول إن بيت الأخلاق هذا ليس حكرًا على أناس بعينهم إنما هو لأناس ملء قلوبهم حب الأخلاق والتمسك بها، وهم يبذلون كل ما لديهم لإحيائها على الدوام حتى وإن كان السواد الأعظم من الناس يسقطون كل يوم من هذا البيت، وهم بدونها يموتون، أو لأناس أبوا السقوط، الذى ربما يكونون قد وضعوا فيه بالميلاد أو التنشئة، وأرادوا الصعود إلى بيت الأخلاق وما يقتضيهم من عزم وصبر وإصرار على الصعود واستعداد لتحمل مشقته ودفع ثمن الارتقاء.
وتجدر الإشارة إلى أن سكان بيت الأخلاق معرضون دومًا لإغراءات زخارف الدنيا التى لا تنتهى فإذا لم يتمسك الإنسان بدينه، أعنى أخلاق دينه فسوف تغره هذه الزخارف ويقع فى دائرة شهوات نفسه – على أنواعها- وطوق النجاة فى هذا الوقت هو التمسك بمنهج الله حتى يسلم من إغراءات هذه الزخارف.
فالإنسان القوى هو من يستطيع أن يستحضر عقوبة الاستجابة لجاذبية زخارف الدنيا وجزاء الخير فى اتباع منهج الله وما يتضمنه من أخلاق.