كان يوما شديد البرودة فقد وصلت درجة حرارة الجو إلى ثلاث درجات مئوية نهارا خلال هذه الموجة الباردة التى تزور "مصر" قادمة من "أوروبا" وكأن "أوروبا" قد أبت أن تترك "يوسف" دون أن تطارده ببرودتها حتى فى حضن وطنه الذى افتقد دفئه سنوات طويلة قضاها فى مدينة الضباب "لندن".
ولكن هذا البرد بجبروته وقسوته لم يستطع منع "يوسف" من تلبية نداء والده المتوفى الذى زاره فى منامه البارحة فقد رآه "يوسف" مرتديا جلبابه الأبيض وطاقيته البيضاء ممسكا بمسبحته عائدا من صلاة الجمعة حينما قابله "يوسف" فى الطريق فناداه مقبلا نحوه بلهفة:
"أبى...أبي"
فنظر إليه والده ثم أدار وجهه عنه واستكمل طريقه غير عابئا به, جن جنون "يوسف" وهرع خلف أبيه يناديه باكيا:
". "أبى أرجوك توقف, انتظرنى....لقد اشتقت إليك...عد إلى أو خذنى معك
توقف والده ثم نظر إليه ولم ينطق, فعاد "يوسف" ليستكمل توسلاته الباكية:
"أبى..أتتركنى مرة أخرى بعد أن وجدتك...رفقا بى لا تقسو على ولا تحرمنى منك مجددا".
أدار أبوه وجهه عنه مرة أخرى فجثى "يوسف" على ركبتيه وظل يبكى بكاءا شديدا ويتوسل له أن يسامحه فاقترب منه الأب فى حنان كعادته ثم وضع يده فوق رأس ولده وهم أن يقول شيئا لكنه لم يفعل ولم يحاول "يوسف" أن يسأله أو أن يرفع رأسه حتى لا يفقد ذلك الشعور الجميل الذى يشعر به ويد والده الحبيب تلامس رأسه فيتسلل الشعور بالامان إلى قلبه...شعور يشبه كثيرا ذلك الذى يشعر به ظمآن مع أول شربة ماء باردة تطفيء رمض جوفه، ويشبه كثيرا ذلك الشعور الذى يشعر به سجين ظل يحلم بنور الشمس ثم وجد نفسه فجأة حرا لتستقبله أشعة الشمس بعناق طويل.
ثم رفع والده يده عن رأسه وشرع فى الرحيل, فعاود "يوسف" توسلاته مرة أخري:
"أبى...أرجوك ابق معى...لم أشبع من قربك بعد".
فنظر إليه والده بينما هو مستمر فى المضى فى طريقه:
". "سأنتظر زياتك لى فلا تتأخر
توسل إليه "يوسف" :
"أبى خذنى معك"
فرد والده:
"لم يحن الوقت بعد يا ولدى...و لكن لا تنسى أن تكرم ضيفك فى بيتك".
ثم كررها مؤكدا: "فى بيتك يا يوسف".
و حين استيقظ "يوسف" قرر أن يلبى دعوة والده لزيارة قبره اليوم مهما كانت الظروف وأنه لن يتأخر عن تلبية دعوته فى مماته مثلما تأخر عنها فى حياته, وها هو الآن يقف أمام قبر والده وحيدا فى المكان ومن ذا الذى يستطيع أن يفكر فى زيارة المقابر فى مثل هذا الجو شديد البرودة برياحه العاصفة وأمطاره الغزيرة.
وقف "يوسف" يقرأ الفاتحة لوالديه وظل يدعو لهما وقد اختلطت دموعه بماء المطر بينما تمر برأسه ذكريات كثيرة تقتحمه وتسيطر عليه, بعضها يعتصر قلبه ألما وندما وأخرى تحتضنه وتهبه دفئا كم يفتقده. وانبرى يتحدث إلى والده ويعتذر له بدموعه وتنهيداته عن سنوات الغربة التى فرقتهما وعن عدد المرات التى خذل فيها رجاءه حينما كان يرجوه أن يعود إلى مصر حتى يقضى الأب ما بقى من عمره غير محروما من ولده الوحيد.
و بينما هو على هذا الحال لمح "يوسف" عجوزا يخرج من احدى المقابر, ففزع منه لكنه راح يفسر لنفسه أنه مجرد وهم وارد الحدوث خاصة مع مشاعره المضطربة وهذا الطقس. ازداد فزعه حينما تيقن أن الأمر حقيقة وليس وهما على الإطلاق. ظل يردد آية الكرسى وعيناه تراقبان هذا الشخص العجيب ولكنه تنبه إلى أن الرجل يرتدى ثيابا – وأن كانت متسخة وقذرة – إلا أنها ليست كفنا بأى حال من الأحوال. ربما هذا الرجل قد أتيا به الاشتياق والوجع إلى حبيب قد وراه الثرى.
توقف الرجل ووضع يديه على وجهه ويبدو أنه يبكي, ثم انفجر يصرخ مقهورا:
" لم ترفضوننى !! لم لا تريدوننى بينكم !! أجيبونى !!....... لقد تعبت وأريد أن اعود إلى عالمى وأرقد فيه كما ترقدون."
ظل العجوز يصرخ هكذا ويوسف يراقبه متعجبا حيث أنه لا يرى حيا فى المكان يمكن أن يكون هو الموجه له هذا الحديث.
لعله يكلم الموتى !... لا حول ولا قوة إلا بالله، يبدو أنه رجل فقد عقله, ياله من مسكين". هكذا تحدث "يوسف" إلى نفسه ثم استدار ليهم بالرحيل. وما لبث أن سار فى طريقه خطوات قليلة حتى لاحظ أن صراخ الرجل قد توقف تماما فدفعه الفضول أن يتفقد ما الأمر.
اقترب من المكان الذى كان يقف فيه العجوز فرأه جالسا القرفصاء يرتعد من البرد مرتديا ملابس خفيفة قد أغرقها المطر فالتصقت على جسده النحيل الهزيل الذى بدا كأنه هيكلا عظميا عليه بقايا من لحم قد تحلل ومغطى بجلد داكن اللون.
تقدم إليه "يوسف" بحذر حيث أنه لا يستطيع أن يتوقع ردة فعله ثم ألقى عليه السلام. نظر إليه العجوز غير مكترثا ولكنه رد عليه السلام وراح ينظر إلى الأرض مرة أخرى مستمرا فى شرود عقله وارتعاد جسده النحيل. شعر "يوسف" بزلزال يهزه من الداخل, فوجه الرجل يشبه كثيرا وجه والده الراحل لولا اختلاف لون البشرة والعينين. لم يدر بنفسه إلا وقد نزل إلى الأرض وضم الرجل إلى حضنه بكل ما يحمله من اشتياق لوالد قد حجبه الموت عنه وبكل ما يحمله من ندم وأسف واعتذار لم يمهله القدر أن يقدمهم لوالده.
الغريب أن العجوز لم ينزعج مما فعله "يوسف" بل أنس إليه. خلع "يوسف" معطفه وألبسه بيديه للرجل والذى بدا مستسلما لكل ما يفعله به. اختفى عدم الاكتراث من نظرة العجوز ليوسف وبدأ يظهر شيئا جديدا به حياة فى عينى الرجل.
قال "يوسف":
هل تعرف عنوان بيتك يا والدى الطيب؟"
رد الرجل بصوت منكسر:
ربما هنا, ربما فى مقبرة أخرى, لا أعلم".
تعجب "يوسف" من الرد ولكنه تأكد أنه يتعامل مع شخص لديه مشكلة عقلية أو نفسية. فأمسك بيده لينهضه قائلا:
تعالى معى يا والدي, أستضيفك فى بيتى لترتاح وتبدل ملابسك التى أغرقها المطر حتى لا تمرض".
نظر العجوز إليه فى هدوء قائلا:
اطمئن يا بنى، الموتى لا يمرضون مثلكم".
تفاجيء "يوسف" بهذا الرد الذى ورغما عنه أصابه بشيء من الفزع والخوف ولكنه صار يذكر نفسه أن الرجل غريب الأطوار وأن ما يقوله لا يتعدى الهلوسة.
تمكن "يوسف" من اصطحابه إلى بيته وقد استطاع خلال حديثه معه فى الطريق إلى البيت أن يحصل منه على بعض معلومات متناثرة لا يعلم أن كانت حقيقية أم أنها من ضمن هلوساته. حيث فهم منه أن اسمه "عزب" وليس لديه أولاد, وأن زوجته متوفية. كان "يوسف" يشعر بواجب نحو "عزب" منذ أن لمح فى وجهه ملامح والده المتوفى وتضاعف هذا الشعور بعد أن تذكر ما قاله له والده فى المنام حينما طلب منه الزيارة ثم أوصاه أن يكرم ضيفه فى بيته.
لم يكن حلما بل رؤية" هكذا ظل يردد "يوسف" بينه وبين نفسه.
استطاع "يوسف" أن يقدم للرجل كل ما يستطيع من رعاية فى بيته ثم استعان بصديقه الدكتور "عاطف" وهو أخصائى أمراض نفسية وعصبية ليساعده فى التصرف فى هذا الأمر. كان رأى "عاطف" أنه يتحتم على "يوسف" أن يرفع عن نفسه المسئولية القانونية نتيجة ايواءه لشخص مجهول الهوية فطلب منه أن يذهب إلى الشرطة ليخبرهم بالأمر ويتخذ الاجراءات اللازمة فربما هو مفقود من أهله وهم يبحثون عنه. أما بالنسبة لتشخيصه الطبى لحالة "عزب" فقال:
إنها "متلازمة وهم كوتار". وهو مرض نفسى غير شائع قد يتوهم فيه المريض أنه ميت أو أنه غير موجود ويتعامل على هذا الأساس. قد يحدث المرض نتيجة التعرض لصدمات نفسية أو إصابات دماغية فى حادث ما".
ثم استطرد مطمئنا صديقه:
هناك حالات كثيرة استجابت للعلاج".
بالفعل توجه "يوسف" إلى قسم الشرطة واتخذ جميع الاجراءات القانونية التى قد تساعد "عزب" فى العثور على أهله. ثم عاد به إلى البيت وقرر ارسال صورته إلى احدى الصفحات على موقع "الفيسبوك" المتخصصة فى البحث عن المفقودين.
لم يبخل الدكتور "عاطف" بوقت أو جهد فى علاج العجوز المسكين, كان كل هذا يحدث فى بيت "يوسف" الذى كان مصرا على أن يتم العلاج فى بيته مهما تكلف الأمر.
ذات يوم اتصل ضابط القسم بيوسف ليخبره أنه قد وجد بلاغا من احدى دور المسنين باختفاء أحد النزلاء اسمه " عزب الباجوري" وله نفس مواصفات الرجل الذى عثر عليه "يوسف".
ذهب "يوسف" إلى دار المسنين واستطاع أن يشرح لهم وضع الرجل صحيا واتخذ كل الاجراءات القانونية الممكنة لتمكنه من الاحتفاظ بالعجوز المريض فى بيته كى يتلقى علاجه كاملا, وخاصة بعد أن علم أن "عزب الباجوري" لديه ابن وحيد قد هاجر مع زوجته إلى "كندا" بعد أن أودع والده فى هذه الدار وأنهم قد أرسلوا إليه خبر هروب والده ولم يجدوا منه أى رد حتى الآن.
مرت الأيام وهى تزيد من تعلق "يوسف" بعزب وتزيد من تعلق "عزب" بيوسف. ربما هذه المشاعر الجميلة كان لها دور فى نجاح العلاج فعلا.
كان "عزب" فى كل مراحل مرضه لايزال يحتفظ بشيئا من الحكمة حتى أن "يوسف" كان حريصا جدا أن يستمع إليه حتى فى هذيانه. لاحظ "عاطف" أن "عزب" حين يمسك بورقة وقلم يرسم رسوما لا تصدر سوى عن فنان فلفت "عاطف" نظر صديقه "يوسف" إلى هذا الأمر. وبالفعل اهتم "يوسف" بتوفير أدوات الرسم جميعها, مما كان له أثرا إيجابيا فى نفس والده البديل "عزب الباجوري" الذى أرسله له القدر فكل منهما كان فى احتياج شديد إلى الآخر ولا أحد يستطيع أن يجزم من الأكثر احتياجا للآخر.
تم بفضل الله تعالى شفاء "عزب الباجورى" وأصبح يرى كرجل ذو همة ونشاط خاصة مع شعوره بالمسئولية عن "يوسف" ابنه الجديد. نعم، فلقد رأى "عزب" أنه الآن أبا مسئولا عن "يوسف" مما جعله يشعر برغبة حقيقة فى الحياة مع أنه لم ينس أبدا ولده الأصلى من دعائه فى صلواته, بل هو لا يزال منتظرا لعودته مع أحفاده بفارغ الصبر المختلط بشيء من اليأس.
أما عن جرائد اليوم فلا أظن أن واحدا منها لم ينزل به إعلانا عن المعرض الفنى لأعمال الفنان "عزب الباجورى" الذى سيقام قريبا وهذه كانت هدية "يوسف" لأبيه الجديد فى عيد ميلاده السبعين.