الشوارع ليست مجرد مسارات وأعمدة وجدران بل ذكريات وحكايات تتسلل إلى قلبك حين تمر بها وتشم فيها عطر سنوات أو لحظات من عمرك كدت أن تنساها فى زحمة الحياة.
لعلك مررت يوما ببيت العائلة الكبير وهرب منك قلبك وعقلك ليتذكر سنوات قضيتها فى هذا المنزل، أصوات ضحك عائلتك مازال يحتل أذنيك، رائحة جدتك أو رائحة طعام جدتك -بمعنى أدق- يفوح ليملئ الشارع بأكمله، حكايات جدك التى طالما استمعت إليها بصوته الحنون، خطوات قدميك على سلالم المنزل المتهالكة، قبلات خالتك التى كنت دائما ما تصر على تجفيف اثارها من على وجهك، حملقة أبوك فى عينيك حين تخطأ القول أو تتصرف بشكل غير لائق، كلمة "اقعد ساكت" التى تحتل لسان أمك أمام الجميع...لعبك وشجارك وبكائك مع أخوك وباقى اطفال عائلتك، تسلق جدران النوافذ لتجد أيادى تشدك للوراء وصوت يصرخ فى وجهك "هتقع فى الشارع"، تتذكر دق باب الجيران والهرب سريعا حتى لا يراك أحد، نومك فى أى مكان من شدة التعب والإرهاق بعد اللعب لتحملك أمك أو جدتك فى حضنها لتأخذ جرعة حنان وراحة لن تشعر بقيمتها إلا بعد ما تكبر.
جاء أول يوم رمضان وسيأتى الجميع بعد انتهاء العمل والدراسة إلى بيت العائلة لتناول الإفطار سويا، ولا بد أن يأتى فردا متأخرا دائما فى كل عام. يسود الصمت ساعة الإفطار فأكواب عصير "قمر الدين" و"الكاركديه" تغطى الأفواه، لتنطلق أصوات الضحك والحكايات الممزوجة بصوت الأدعية والبرامج فى التلفزيون بعد الإفطار، وتمتد إليك عشرات الأيادى لتضع كميات هائلة من الطعام فى صحنك...كميات لن تستطيع أن تتناولها فى شهر ليس فى ساعة واحدة،لينتهى اليوم بعبارات "كل سنة وانتم طيبين...متجمعين دائما...رمضان كريم"
تتذكر أول حالة وفاة فى هذا المنزل...أصوات الصراخ والبكاء... بريق قطرات الدموع واحمرار العيون والأنف أيضا...تعازى الجيران...الملابس السوداء التى تغطى كل الاجساد من حولك...صوت القرآن والأدعية.. تفاصيل الوفاة والكلمات الأخيرة التى قالها تعاد كل دقيقة لكل من أراد أن يتطفل ويسأل.. عيون شخص لن تراها ثانية.. ويبدأ عقد العائلة ينفرط تدريجيا يسافر البعض وينشغل البعض الأخر وتقسو القلوب وتصبح فرص التلاقى بعيدة المنال.وتطوى حكاية منزل وتبدأ حكاية منزل آخر.
نعم.. يبدو أنه مجرد منزل قديم فى شارع لكن وراء كل منزل حكاية فى النفس.