كان يلعب بالكرة وحيدا ذات صباح يوم حار من أيام الصيف فى أواخر ثمانينات القرن الماضى أمام منزل جده المبنى بالطوب اللبن، كواحد من أقدم منازل القرية، والذى يتقاسمه والده مع عمه الأصغر. كان ينظر حوله باحثا عن أحد من أقرانه ليشاركه اللعب عندما نادت عليه جدته. ذهب إليها مسرعا وهو يحمل الكرة بين يديه وقطرات العرق تتساقط من جبينه عليها.
طاهر: أيوه يا ستى..
الجدة: خد يا حبيبى بطاقة سيدك والختم بتاعه وروح الجمعية الزراعية اللى قبلى البلد وهات المعاش علشان جدك فى الغيط ..
طاهر: حاضر يا ستى ..
كان طاهر قد تجاوز عامه التاسع و هو متعلق بجدته لأبيه.. فجداه لأمه قد رحلا قبل ولادته. كان يصور له خياله أحيانا كثيرة أن أسرة جدته ليست من أهل القرية، فهم أصحاب عيون ملونة ووجوه حلوة التقاطيع.. وكأن أصولهم ألبانية أو تركية أو ما شابه ذلك.. وقد كان من أشد المعجبين بجده، أخو جدته، فقد كان معتدل القامة، قوى البنية، وجهه أحمر كجندى إنجليزى وعيناه خضراوان وله شارب كث أبيض يرفع طرفاه لأعلى وكأنه أحد الباشاوات أو الإقطاعيين الأجانب الذين أخذوا منه أرضه وأرسلوه بعيدا .. كان يشبه إلى حد بعيد الفنان القدير محمود مرسى .. و ظل حتى ٱخر أيامه، وقد اقترب من عقده الثامن، نشيطا، يذهب إلى حقله و يحضر الحشائش والبرسيم لبهائمه.. فقد كان يعيش فى بيته الكبير مع زوجته فقط، فلم يرزقهما الله بأبناء .
ارتدى طاهر جلبابه وشبشبه منطلقا نحو بغيته.. ماسكا فى يده عصا خوفا من الكلاب المتسكعة فى الشوارع.. ها هو اقترب من غرفة التليفون حيث يوجد التليفون العتيق الخاص بالعمدة للتواصل مع المركز من خلال الخفر وشيخهم المتواجدين بالغرفة كما أنه يتم اصطحاب الخارجين على القانون إليها واحتجازهم بها حتى يتم ترحيلهم إلى نقطة الشرطة التابعة لها القرية أو مركز الشرطة بالمدينة. الجمعية الزراعية على بعد خطوات.. وهى عبارة عن جزء من منزل كبير خاص بأحد أقارب العمدة ومواجه لبيت العمدة.. الذى يحيط به سور عالى تبدو من خلفه الأشجار والنخيل وجزء من الطابق العلوى لدوار العمدة ..
صعد طاهر ثلاث درجات السلم الحجرى ليصبح فى باحة الجمعية الزراعية التى لا تتعدى مساحتها عشرة أمتار مربعة اكتظت بعشرات من شيوخ القرية.. نساء ورجال افترشوا الأرض داخل الباحة وخارجها فى مجموعات.. النساء فى مجموعات.. والرجال فى مجموعات.. يملؤون المكان كلاما و طنينا كطنين النحل عندما يهدم أحدهم عشه.. عش الدبابير . يجترون ذكرياتهم منذ سنوات طويلة خلت عندما كانوا فى عنفوان شبابهم.. ولسان حالهم.. وأيديهم المرتعشة من شدة الوهن.. والتجاعيد المتموجة المحفورة على جباههم بفعل الزمن.. وأطلال أسنانهم الشاهدة على أنه كان يسكن هذا الفم أسنان قوية.. جرشت الفول.. وقضمت القصب بعد أن قشرته ليدخل بين رحاياها لتلفظه وهو مجرد ألياف جافة كالتى تخرج من المعصرة تماما.. كلها تقول "ليت الشباب يعود يوما".
سرح طاهر بخياله بعيدا مع حكايات الأيام الخوالى.. وهو ينظر إلى بعضهم وهم جالسون صامتون وكأن على رؤوسهم الطير.. واجمين.. ناظرين إلى لا شىء.. والفضول يكاد يقتله.. ترى ما حكاية هؤلاء.. ترى كيف مرت بهم السنوات الطوال حتى جاءوا إلى هذه الساعة وقد هرموا.. هل كانت حياتهم قاسية أم لينة؟ هل مرت عليهم ليالى الشتاء الطويلة وهم فى دفء وشبع.. أم فى برد وجوع.. فتمر الثوانى ثقيلة وكأنها أعوام.. وگأن الصبح لن يدركهم أو أنهم لن يدركوه؟؟ هل عاشوا حياتهم كلها داخل أسوار القرية القابعة بين الجبل الشرقى ونهر النيل.. أم أنهم ارتحلوا بين القرى والنجوع بأمر لقمة العيش.. ترى كم واحد منهم كان شقيا.. قاطع طريق.. كم واحد منهم نقب الحيطان المبنية بالطوب اللبن بسمك يتجاوز النصف متر ليسرق البهائم فى زمن كان فيه أبناء الليل، أسطورة كأساطير أدهم الشرقاوى وأبو زيد الهلالى.. أم أن حياتهم كانت هادئة رتيبة ومملة؟ هل عاشوا حقا كل هذه السنوات؟ هل شعروا بها وهى تتسرب من بين أيديهم؟ أم أنها مرت كومض الضوء.. كلمح البصر.. فلم يشعروا إلا وهم جالسون الٱن فى انتظار بعض جنيهات تعينهم على الحياة وهم فى أرذل العمر.. بعد أن كانوا يلعبون البارحة لعبة العسكر والحرامية ..
لم يفق طاهر من أفكاره تلك إلا على ضجيج رفقائه الشيوخ و هم يكررون اسم جده وراء الموظف ليستلم معاشه ولينقص الحاضرون واحدا.. أخذ الموظف ختم جده وبطاقته وهو يعلم جيدا أن صاحب هذه البطاقة على قيد الحياة.. فلا شىء يخفى فى هذه القرية.. ولا يستطيع أحد أن يخدعه. أخذ طاهر النقود آملا أن تعطيه جدته بعض القروش ليشترى بعض الحلوى من دكان عم شاكر.