لن تعرف قيمة وطنك إلا عندما تغادره وتبتعد عنه ولو لسويعات قليلة تماما كما يحدث مع (الرسام) عندما يقوم برسم (لوحة جميلة) فإنه مضطر أن يعود للخلف قليلا حتى يتمتع بجمال ما رسم، فبالبعد ولو القليل يتم الاشتياق فكما يقول المثل القديم (زر غباً تزد حباً)
بالتأكيد عزيزى القارئ المحترم أننى لم أقصد بهذه المقدمة أن أدعوك لمغادرة وطنك العزيز مصر ولا دعوة لك للتفكر فى الهجرة، ولكن هو الحنين الذى ينتاب كل مغترب عن مصر فمهما كانت المميزات خارج مصر لن تغنيك عن دفيء هذا الوطن هكذا أحسست بما يجول فى عقل وقلب صديقى المهاجر.
فقد فوجئت بالكلمات تنساب من بين شفتيه كأنها شلال شوق وحنين، فهو يتحدث عن مصر كأنه يرسم لوحة فنية لحبيبة تعلق قلبه ووجدانه بها فحديثه يخرج من القلب مباشرة (فهو لا ينتقى أو ينمق الكلمات) فيشعرك أنك تتحرك على تراب جنة وتستنشق عبيراً وليس هواءً كما هو الحال فى بلاد العالم الأخرى.
ثم يدلل على حديثه ويسوق الأسباب التى تؤكد وجهة نظره بأن وطنه مختلف عن الأوطان الأخرى فيقول (هل تعتقد أنه بإمكانك أن تجد وطن كمصر ؟) ويستطرد مجيباً على نفسه (من المستحيل بالطبع أن تجد وطن كمصر فهو وطن مختلف فى موقعه وجوه وشعبه) فمصر تتوسط العالم كأنها رمانة الميزان لهذا الكون.
ثم هذا المناخ الخرافى الذى لا يقتلك حره صيفاً ولا يجمدك زمهريره شتاءً فتناغم الأقاليم فى بوتقة واحدة جعل من مصر مقصدا سياحياً مبهراً فلا ينقطع زواره ومحبيه طوال أيام السنة بل هناك الكثير من الزوار من يبحث عن القرب الدائم بأن يجعل له ارتباط ابدى من خلال الإقامة فى مصر لأنها منحته دفء المشاعر فلم تجعله يحس بالغربة فيها.
أما عندما تذكر شعبها فحدث ولا حرج، فمن مثل المصريين فى المروءة فكل ما عليك أن تراقب حوادث الطرق مثلا فى مصر وخارجها وشاهد كيف يقوم صاحب المروءة المصرى بالتضحية بنفسه من أجل إنقاذ غيره بل وترى الطرق تكاد تتوقف تماما ليتجه الجميع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فى نفس الوقت الذى ترى فيه معظم دول العالم يمر أهلها على الحوادث فيلتقطون صور (السيلفى) مع المصابين أو الموتى.
وقس على ذلك الكثير من صور المروءة فى الحرائق مثلا ومدى تضحية الشباب بأنفسهم فى سبيل إنقاذ أصحاب الحريق كل ما سبق وغيره صور بسيطة للمواطن المصرى الذى يتميز بطيبة القلب والكرم بل والإيثار فهو شعب مختلف عن الغير يقطن فى وطن مختلف عن الأوطان، ويستطرد قائلا (ولكن) وآه ثم آه من لكن (ولكن ينقص هذا الشعب أن يرى مصر من خارجها حتى يراها جيداً).
قلت لصديقى من الصعب أن نقنع هذا الشعب أن يرتحل جميعه من مصر حتى يرى من خارجها مدى جمالها وروعتها وحنيتها، ولكن اطمئن يا صديقى فمصر تمرض ولكنها لا تموت وإن كانت تعطلت مسيرتها لأسباب داخلية أو خارجية فتأكد أنها ستنطلق وستعود لسابق عهدها فإنها تمتلك المعدن الطيب الذى يكفيه إزاحة التراب عنه حتى يعود بريقه يخطف الأبصار.