لماذا نخاف الموت ونكرهه؟! إذا كنا مؤمنين بأننا لسنا من المخلدين فى الأرض فلماذا نريد الابتعاد عن الموت وبذل كل ممكن فى سبيل تأخيره؟ لماذا نخشى هذه اللحظة التى مرت بالبشر جميعاً حتى الأنبياء؟ لماذا نخشاها بكل هذا الهلع وهى الوعد النافذ والمصير المحتوم الذى لا شك فيه؟
الموت ضرورة من ضرورات الحياة.. نعم، ضرورة للحياة ويكفى أن نتصور ماذا يحدث للكون إذا لم يكن هناك موت وماذا لو توالدت الكائنات ودامت حياة البشر والحيوانات والحشرات إلى ما لانهاية لا شك أن الحياة كانت ستصبح مستحيلة للزحام نتيجة التكاثر المستمر لآلاف بل ملايين السنين وكانت الحياة ستصبح راكدة بلا تجديد.. وهذا سيؤثر حتماً على نوازع الاختراع كما سيتعارض مع مبادئ الاختلاف والتنوع وتغير الحالات والأحوال التى أقرها الله، ولذلك فإن الموت والحياة صورتان لحقيقة واحدة.
وفى الحياة لا شىء يهذب أرواحنا وينقيها من الشوائب العالقة بنا ولا شىء يضائل حجم مشاكلنا ولا شىء يجعلنا نراجع حساباتنا ونتسامح أكثر مع من اختلفنا معهم ويجعلنا أقزامًا أمام أنفسنا ويعرينا ويمرغ أنفنا فى التراب ويجعلنا ندرك حقيقة أصلنا ومآلنا كالموت الذى تغدو بحضرته كل الأشياء عابرة بل وتافهة.
أول من تبنى فكرة استمرار الحياة بعد الموت كانوا المصريون القدماء الذى قاموا بتحنيط ملوكهم والحفاظ عليهم كأنهم أحياء، إيمانًا بأن للميت دورًا كبيرًا فى الحياة الاجتماعية وهو يواصل فى الحياة رغم موته.
فكرة الموت فى الإسلام فكرة منهجية ورؤية الإسلام للموت رؤية متكاملة وحديثه عن الموت حديث عن مفترق طريق وبرزخ بين سبيلين أحدهما خالد والآخر منته، فلا يمكننا أن نقصر فكرة الموت على مجرد التذكرة والموعظة كما يفعل كثير من الوعاظ فيتحدثون عن الموت بغية التأثير فى الناس بالأجواء التى يمكن أن تكون محيطة به من فراق للصحبة والمتاع وسكون فى التراب ورحيل عن الحياة فيستدعون الدمع الذارف والنحيب والبكاء على أنفسهم أو أقاربهم الذين قد فارقوهم وتركوهم فحسب ليظل التفكر فى الموت قاصر على المواقف المؤقتة والمصائب المؤثرة.
أهل التصوف يصنفون الموت أصنافًا أربعة: الموت الأحمر وهو مخالفة النفس والمسمى بالجهاد الأكبر، والثانى الموت الأبيض وهو الجوع وسمى بذلك لأنه ينور الباطن ويبيض وجه القلب، والثالث الموت الأخضر وهو لبس ما يستر العورة وتصح فيه الصلاة وسمى أخضر لاخضرار عيش صاحبه بالقناعة، الرابع الموت الأسود وهو احتمال الأذى من الخلق والصبر على أحوالهم وسلوكهم فى المعاشرة.
الإيمان المسيحى يؤكد هذه الحقيقة بأنه عندما يموت الإنسان فإن مصيره مرتبط بحياته قبل الموت، فإذا كان الإنسان آمن ووضع رجاءه فى المسيح فإن له الحياة الأبدية، أما إذا كان الشخص رافضاً عمل المسيح ورفض الإيمان فإن له الدينونة المخيفة وإننا كبشر لا نستطيع أن نحكم على الشخص بمجرد موقف أو اثنين ولا نستطيع أن نقرر من يذهب إلى الجحيم، ومن يذهب إلى السماء يقول الكتاب المقدس "كل من يؤمن بيسوع تكون له الحياة الأبدية وما يهمنا من هذا كله هو الوصول إلى نتيجة هى أن الروح لا تفنى.
أما الديانة اليهودية فلا تؤمن بفكرة الحياة بعد الموت، وذلك لأنه لا يوجد تطرق فى التوراة وهو الكتاب المقدس عند اليهود لفكرة الحياة بعد الموت رغم وجود حديث عن عودة الروح إلى الله فى الكتاب.
الشاعر طرفة بن العبد - وهو أحد شعراء المعلقات - اعتنى بموضوع الموت واستمد منه فلسفة للحياة ومنهجًا فكريًا للإنسانية وقد عبر عن فكرة الفناء وعدم الخلود فى الدنيا وعدم المبالاة بالموت، وضرورة أن يعيش المرء حياته وأن يستمتع قدر المستطاع لأنه لن يعيش إلا مرة واحدة فقط ولا يخفى أن آراء الشاعر مستمدة من خبراته الحياتية ومكنوناته النفسية والمنهجية الفلسفية المسيطرة على الشاعر فى هذا السياق هى أن الموت لا بد منه فلا معنى للبخل والامتناع عن ملذات الدنيا.
وفى الفكر الفلسفى فإن دراسة الموت نادرة لأن آخر ما يفكر به الرجل الحر هو الموت فحكمته ليست تأملاً فى الموت بل تأملاً فى الحياة، ولكن لا نعدم نماذج من الفلاسفة من أمثال شوبنهاور الذين ذهبوا إلى أن الموت هو الموضوع الذى يلهم الفلسفة والفلاسفة.
فيما كان الهدف المراوغ الذى سعى إليه ديكارت فى حياته هو قهر الموت لا فى النفس وحدها بل فى الجسم أيضاً والعلاج الذى يصفه للشقاء من خشية الموت يتمثل فى اقتناعه الجازم بأن أنفسنا تبقى بعد أجسادنا وأن هذا الاعتقاد قائم لا على تعاليم الدين وإنما على أسباب طبيعية.
الموت حق كما الحياة تماما.. لا نجاة ولا هرب ولا تأخير ولا تأجيل.. حتى الحيوانات غريزياً تعرف ذلك.. تعرف أن لها آجالاً محددة بل وتستعد باختلاف أنواعها للموت بطقوس ثابتة ومتشابهة لم يفهم أحد كيف تحدث حتى الآن.
إن فكرة الموت تجمع حولها كثيرًا من المعانى الإيمانية والمبادئ الحياتية والدوافع السلوكية التى قد تغير طبيعة حياة الإنسان من لهو وعبث إلى قيمة وأثر.