يوسف القاضى يكتب : رجل المحطة وغدر الزمان

خلال شهر كنت أتردد فيه على مصلحة الأحوال المدنيه بأسيوط ، كلما نزلت من القطار على رصيف محطة أسيوط ، ولأكثر من عشر مرات ، لفت إنتباهى رجل يختلف فى مظهره عن كل الرجال ، ولعل إشفاقى عليه هو الذى أبقى ذاكرتى حبلى بصورته ، هذا الرجل الذى هو ، من غير اسم ولا عنوان ، لو صادفه أى مخرج سينمائى ، لإستقى من ملامحه المأساويه شخصية سينمائية أضافت إلى شهرته شهرة ، ولعل ملامحه الأرستقراطيه التى يتمتع بها دفعتنى إلى أن أقف على الرصيف المقابل أتأمله ، لحيته كثة طويلة ، علق بها ما علق من الأوساخ والزيوت والشحوم ، وجهه حاد الملامح ، يعلوه رأس مستديرة طال شعرها ، أما باقى الجسد فحدث ولا حرج ، كل شيء فيه يشى بالقذارة ، ويدعو إلى التقزز والإشمئزاز ، وربما التأمل والتفكير ، من هم أهله ؟! ، من أين جاء ؟! ، أين ينام وكيف ؟! ، وأسئلة أخرى ، ربما كانت أكثر خطورة ، أبسطها سؤال مشروع تفرضه ملامحه التى توحى بأنه عزيز قوم ذل : هل هذا الرجل معتوه ، أم أنه يخفى وراء حالته ما يخفى ؟! ، لا أنكر أن دموعى سالت ، يوم رأيته لأول مرة ، وبعد مشاهدات عديدة له ، دفعنى فضولى إلى الإقتراب منه أكثر فأكثر ، حتى أننى تجرأت يوماً ووضعت فى كفه بعضاً من المال ، وتشجعت أكثر بعد دعائه لى بالتوفيق وطول العمر ودموعه تنهمر من عينيه ، ذات صباح شتوى بارد ، وفور نزولى من القطار ، فاجأنى هذا الرجل بما ليس بحسبانى ، بل أدهشنى حين لم يخيب جميع تخميناتى وظنونى ، رأيته بشحمه ولحمه يجلس مستنداً إلى حائط الرصيف ، متدثرا" بـــ ( بطانيه ) متسخه يملأها الثقوب ، يقبض بأصابعه الرقيقة على قلم جاف ، يدون خربشات ما على مجموعة أوراق مرتبه لا أدرى من أين جاء بها ، ولا كيف وجدها ، كما لا أدرى أى خاطر مجنون ركب رأسى ، جعلنى أجلس بجواره أطالع خربشاته ، وأنا على أحر من جمر اللظى ، لعلى أقرأ بها ما يدلنى على سر هذا الرجل أو أجد وصفا" لحالته الغامضة ، فهو وديع جداً ، ونظراته حادة ، لا يؤذى أحداً ، ولا يسأل الناس ، ولا يتكلم إلى أحد ، وغيرها من الصفات التى لا يتمتع بها سوى الأكابر من الناس ، نهض الرجل كأن به مساً ، حين شعر بى أجلس بجواره ، أدار وجهه بسرعة البرق ، ثم راح فى نوبة بكاء ، مبتعدا" عن المكان حاملاً قلمه وأوراقه ، مخلفاً وراءه ألماً وحزناً وأسى مما جعلنى أفكر بالعودة إلى مجالسة ذاك الرجل المجنون ، وربما مرافقته وصحبته إلى الأبد ، لما فيه من الصفات التى لا يتمتع بها سوى العقلاء من البشر ، أجاركم الله من غدر الزمان ، أتمنى من أى مؤسسه خيريه بأسيوط إنقاذ هذا الرجل من معيشته المزرية وإقامته غير الآدميه على رصيف رقم ( 1 ) بمحطة قطار أسيوط !



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;