“العلم فى الصغر كالنقش فى الحجر”.. مثلُ قديم يشير إلى رسوخ العلم بالذهن فى السن الصغيرة، لكن هل هناك مخالفة لهذا المثل؟.. يقول علماء الهندسة والفيزياء إن لكل قاعدةٍ استثناء، وبالفعل “أم كلثوم البدوى” ابنة قرية الشنباب بمركز البدرشين محافظة الجيزة، زوجة وأم لأربع أبناء وجدة لبنتان، بدأت مشوارها العلمى فى سن الـ20 عاماً، وتدرجت من فصول محو الأمية إلى الدكتوراه من كبرى الجامعات العالمية “كامبردج البريطانية”.
مشوار طويل سلكته وتحدى كبير لصعاب عديدة، أهمها الخلفية المرجعية للمجتمع الذكورى الذى نشأت فيه، ورسوخ فكرة (تعليم البنات عار، البنت للجواز والخلفة). بدأت أم كلثوم مشوارها سراً حتى حطمت كافة الحواجز جهراً، وحفرت اسمها فى الحجر بالعلم.
بداية مشوار أم كلثوم
“انفراد” كان له لقاء خاص مع “أم كلثوم البدوى” فى قريتها، حيث بدأت حديثها قائلة: “والدى كان رافض تعليم البنات وبيقول البنت مصيرها للجواز وبالفعل أتجوزت فى سن 14 سنة، وبعدما أنجبت بناتى الكبار وكانوا فى سن السادسة ظهرت فصول محو الأمية وكانت ليلية وللبنين فقط”.
وتابعت: “من صغرى كنت بحب التعليم ونفسى اتعلم، فاشتريت كتاب معلم القراءة وسألت المتعلمين انتوا بتعرفوا تقروا إزاى؟، قالولى لو حفظتى حروف (أ- ب) هتعرفى تقرى كل حاجة، وبالفعل فى 3 أيام حفظت الحروف كاملة وابتديت أشبك الحروف وأسأل الحروف دى ليه زى حروف المد، لحد ما علمت نفسى بنفسى”.
فى أواخر سبعينيات القرن الماضى كانت القرى المصرية تجهل معنى التعليم، وكان قليلاً منهم من يعترف به ويعلم بناته، فكيف تخطت الفتاة القروية هذا الحاجز علماً أنها كانت متزوجة ومسئولة عن طفلتين، وتجيب عن هذا الاستفهام “أم كلثوم” قائلة: “روحت قدمت شهادة ميلادى عشان أذاكر وأخذ شهادة محو الأمية، وكان صعب جداً فى الوقت ده إنى أروح الفصول، ولكنى كنت بجيب الكتب وأذاكر فى البيت وأروح الامتحان فى السر عشان محدش يعرف ويسخروا منى ويقولى “بعد ما شاب ودوه الكتاب”.
وأكملت: ” نجحت بتفوق وخدت شهادة محو الأمية وفرحت أوى لما سألت وعرفت أن الشهادة دى بتساوى المرحلة الابتدائية وتؤهلنى للإعدادية، وبالعفل شجعنى جوزى الحاج نصر جداً وحفزنى، وقالى قدمى وأنا معاكى، وقدمت للإعدادية لكن فى بداية الأمر مدير المدرسة رفض وشخط فيها، وقالى إحنا نقصين الكبار كمان كفاية علينا العيال، قلتله مش هتشوفنى غير فى الامتحان بس وخليت مدرسين أعرفهم أقنعوه وفى الأخر وافق”.
وتابعت: “كنت بذاكرفى البيت وأخد دروس، وأروح على الامتحان، ونجحت فى الإعدادية بمجموع حلو أوى، وجوزى لما شافنى شاطرة حفزنى وقالى كملى، وقدم لى فى الثانوية، وبنفس الطريقة ذكرت فى البيت وأخذت دروس وأروح الامتحان فى السر والحمد لله انجح”.
من يضع هدفه أمام يعنيه ويحاول الوصل أليه أكيد سيصل، أم كلثوم وضعت العلم هدفها والوصول لأعلى الدرجات العلمية أمنيتها، فتجاهلت جميع الاحباطات التى قابلتها وأكملت مشوارها، وتضيف: ” قابلت عقبات كثيرة جداً من الأقارب والجيران لدرجة أنى كنت أضع الكتب تحت حجابى كأنى بعمل حاجة غلط، وأيضاً كنت بذاكر من قبل الفجر حتى السابعة صباحاً كى لا يرانى أحد، والحمد لله وفقت بين البيت والمذاكرة”.
وأكملت ” كنت بصحى الساعة 3 الفجر أخلص شغل المطبخ وبعدين أصلى الفجر وأحضر الفطار والغذاء ، وأودى الولاد المدرسة وأرجع أروح الدروس وأذاكر شوية حتى رجوع الولاد من المدرسة أشوف أمور بيتى، كان كله على أعصابى عشان أوفق بين البيت والمذاكرة والوصول لهدفى “.
تحفيز الزوج لأم كلثوم
يقول المثل القديم “وراء كل رجل عظيم امرأة”.. وفى حالات نادرة يكون العكس “وراء كل امرأة عظيمة رجل عظيم “.. الحاج نصر، الذى تقول عنه أم كلثوم: “زوجى رجل طيب وهو ابن عم والدتى، وكان بيساعدنى فى كل حاجة وبيحفزنى وكان بيودينى الجامعة ويستنانى ويرجعنى البيت عشان ماكنش لوحدى ولو لاقانى تعبانة بيساعدنى فى البيت، وطول ما أنا مش مقصرة فى حاجة هو بيقدرنى”.
يقول الحاج نصر ” العلم نور”: “لازم البنت تتعلم عشان تقرأ كتاب ربنا، وأنا شجعتها كثيراً وتخطيت احباطات أهالى البلد، اللى كانوا بيقولوا يعنى هتبقى دكتورة.. وهى فعلاً بقت دكتورة أنا فجور بها جداً أنها حققت حلمى ورفعت رأسنا كلنا فى البلد”.
فبعد نجاحها فى الثانوية العامة، التحقت أم كلثوم بكلية الآداب قسم الإعلام بالجامعة المفتوحة حتى تساوى بين مهام بيتها والمذاكرة، وكانت من المتفوقين حصلت على ليسانس الأداب بتقدير جيد جداً.
أم كلثوم تخاطب جامعة كامبردج
ولم يتوقف الأمل لتحقيق هدفها، فقامت بتحضير الدراسات العليا مخاطبة وكلاء جامعة كامبردج البريطانية بجامعة عين شمس للحصول على درجات الماجسير والدكتوراه، وبالفعل تحقق الحلم وحصلت أم كلثوم على الدكتوراه بدرجة (جيد جداً – مع مرتبة الشرف الأولى) تحت عنوان (المجتمع والحق فى الاتصال – الإعلام المسموح نموذجاً ) .
تكريم أم كلثوم
ونالت أم كلثوم شهادات عديدة منها من محافظة الجيزة والجمعية المصرية لمساعدة الصغار عن مساهماتها فى تعليم الكبار والصغار، وأيضاً والأكاديمية البريطانية للعلوم والتكنولوجيا، كما كرمتها الجامعة البريطانية كأم مثالية لهذا العام.
أم كلثوم تساهم فى محو أمية قريتها
ولم تكتفى أم كلثوم بتعليم نفسها فقط بل أحبت أن تنشر العلم فى بلدتها البسيطة وخاصة بين بنات وسيدات القرية فمحت أمية أكثر من 300 فتاة وسيدة.