كانت رحلة ممتعة، عدت منها بكثير من الانطباعات الإيجابية، فقررت ألا أكتب شيئا عن هذا اليوم من الرحلة، كانت أيام رائعة فى محافظة لطالما سمعت كثيرا عن طيبة أهلها، حتى رأيت بعينى ابتسامتهم الساحرة تشرق على البشرة السمراء فتضىء صباحنا فى كل يوم قضيناه هناك.. فى البداية قررت ألا أكتب حتى لا يبقى فى الذاكرة شيئا يعكر صفو ذكرياتى الجميلة عن تلك المدينة البعيدة الهادئة.
بعد ساعات سفر طويلة إلى الجنوب الذى اعتدت دوما السفر إليه، وبعد أن تجاوز القطار مركز أبو قرقاص تاركا وراءه محافظة المنيا، مُكملا طريقه راكضا إلى الجنوب، فى تلك اللحظة بدأت رحلتى إلى أسوان، كانت أبا قرقاص أبعد نقطة وصلت إليها جنوبا، فما أن تجاوزها القطار حتى أصبحت أكثر يقظة فى محاولة اكتشاف مدن جديدة لم أمر بها يوما، حاولت تكوين انطباعات عن المدن فى لحظات مرور القطار بها، لفت انتباهى الفروع المتراصة للمحلات الكبرى والشهيرة فى أسيوط، كنت أرغب أن أملأ عينى منها ربما لأن أسيوط جارتنا فى خط الصعيد، وجارتنا فى القاهرة أيضا لسنوات طويلة كل جيراننا من أسيوط وبعض أصدقاء العمر منها أيضا، فسعدت بالنظر إليها من نافذة القطار، بعد ساعات من السفر والانتقال من محافظة لأخرى احفظ ترتيبهن على الخريطة فقط، تذكرت يوم شرحت لنا أستاذة الدراسات الاجتماعية سبب تعرج النيل عند محافظة قنا، فأخبرتنا أن الطبيعة الصخرية للتربة هناك أدت إلى تعرج مسار نهر النيل، فأصبح مكان قنا على الخريطة مميزا على هيئة نصف دائرة مائلة باتجاه الشرق، تمنيت لو أن القطار يدور بنا على شكل نصف دائرة كما يفعل النهر عندما يمر بقنا فيحول تميزها على ورق الخرائط إلى حقيقة على أرض الواقع.
اعتدنا عندما يذكر شخصا بلده الأصلى أو المحافظة القادم منها الرد عليه بتلقائية "أحسن ناس" فأصبح كل أهل مصر أحسن ناس، لكن فى أسوان الأمر مختلف تماما لأنك بالفعل أمام أحسن ناس. حالة من السلام الداخلى تشرق من وجه الجميع، ابتسامة العاملات بالفندق وهن يضعن الإفطار أمامنا كل صباح تكفى لنبدأ بحماس يوما جديدا يزداد معه إعجابنا بالمدينة.
قلت إنى لم أكن أنوى الكتابة عن ذلك اليوم من الرحلة، لكن حرصا منى على أن تظل المدينة فى أبهى صورها جاذبة للسائحين من كل مكان قررت الكتابة، أملا فى أن يتجاوز القائمون على الأمر تلك السلبيات فى العام المقبل.
رحلتنا مع صديقتى هبة مكى إلى أسوان كان محورها الرئيسى حضور تعامد الشمس على وجه الملك رمسيس فى أبى سمبل مع زميلنا محمد فوزى المصور الصحفى المكلف بتغطية الحدث، لا أنكر أنى لم أكن أتوقع كل تلك الحشود لمشاهدة التعامد، رغم إيمانى أن اختراق أشعة الشمس مسافة 200 متر داخل المعبد مرتان فى العام لتنير وجه الملك رمسيس إعجاز للفراعنة لا يُستغرب منهم فى ظل كل ما خلفوه ورائهم من معجزات أبهرت العالم.
نصحتنا عائلة هبة هناك بالسفر مبكرا إلى أبى سمبل، فغادرنا الفندق فى الساعة 12 مساءا.. السفر إلى أبى سمبل استغرق 3 ساعات تقريبا مع سائق أقل ما يوصف به أنه مجنون، ولكن فى الحقيقة أن جنونه أفادنا كثيرا، فبفضله حجزنا مكانا متقدما فى الصفوف التى ازدحم بها مدخل المعبد لحضور التعامد –عندما كان هناك صفوف.
بدأ السائق الرحلة بالسؤال عن راكب لا ينوى النوم فى الطريق ليجلس بجواره، لأنه يخشى أن ينام أثناء الرحلة، لم أقلق. فكثير من السائقين يشترطون على من يجلس بجوارهم عدم النوم، ولحسن الحظ أن رفاق السفر كانوا شبابا متحمسون للرحلة، وظلوا متيقظين طوال الطريق يتجاذبون أطراف الحديث مع السائق كى يظل متيقظا، وعندما سأله شاب يجلس فى المقعد الخلفى عن جدوى الرحلة، وهل تستحق مشقة السفر ثلاث ساعات لمشاهدة تعامد الشمس، فالتفت السائق بنصف جسده العلوى كاملا للخلف تاركا عجلة القيادة والطريق والميكروباص فى رعاية الله، ليشرح للسائل عن جمال الرحلة والاحتفالية المقامة على شرف الملك رمسيس الذى لولا العناية الإلهية لكنا لحقنا به فى تلك الليلة.
عند وصولنا مدينة أبى سمبل، كانت المدينة فى أبهى صورة ممكنة لبلدة تتزين للاحتفال بمليكها، نظيفة.. جميلة.. متطور كما ترفع مدارس التربية والتعليم المتهالكة هذا الشعار، لكن الفارق أنه كان حقيقيا فى أبى سمبل.
حتى تلك اللحظة عزيزى القارئ كانت الأجواء مبشرة، نجحنا فى الوصول للمعبد قبل التعامد بساعتين ونصف وربما أكثر قليلا.
ها نحن أمام المعبد فى انتظار الدخول.. أكثر مكان يحتاج إلى التنظيم والانضباط، هل أكون ظالمة إذا قلت أن التنظيم كان غائبا عن تلك النقطة؟ رغم وجود تأمين لافت طوال الطريق وصولا للمعبد.
هل تفاجأت قوات الأمن بحجم الحضور؟ لا أعرف ولكن كل ما أذكره جيدا أنه إذا سلمنا أن الانتظار الطويل أمام المعبد أمر لا مفر منه وأن من أتى إلى المعبد يعتقد بالتأكيد أن الحدث يستحق العناء، إذا ليس هناك مشكلة فى الانتظار، ولكن لماذا غاب التنظيم عن ذلك الانتظار؟.. لماذا ترك الأمر تماما حتى أصبح الدخول بالتدافع رغم محاولات الأمن السيطرة على الموقف، ولكن كانت محاولات بائسة، ومتأخرة جدا لأنه كان من الممكن ببساطة شديدة العمل على تنظيم حركة الدخول إلى المعبد قبل بدء التعامد، ولكن ترك الأمر هكذا حتى تشعب الصف أمام المعبد إلى عدة صفوف متفرعة دون أى تدخل من جانب الأمن للتنظيم اكتفوا فقط بمنع الدخول حتى شاهد السادة الوزراء التعامد وخرجوا، ثم بدأ السياح - مصريون وأجانب- فى الدخول.
كان الاستياء من التنظيم الثمة الغالبة على المحيطين بنا، حتى أن البعض قرر مغادرة الصفوف من شدة الإرهاق، أعتقد أن حدثا بتلك الأهمية يستحق مزيدا من الاهتمام بالتنظيم، فلا يجوز أبدا أن يخرج السائح من هذا اليوم ولا يتمنى العودة مجددا نتيجة ما لاقاه من شد وجذب وإرهاق شديد كى يصل إلى قدس الأقداس ويشاهد التعامد.
التنظيم الجيد ليس حلما صعب المنال، والدليل أن بعض من حضروا تعامد الشمس من قبل أقروا أن التنظيم لم يكن بمثل هذا السوء من قبل، وما أكد كلامهم حديث جانبى دار بين بعض المشرفين على التنظيم حيث قال أحدهم لزميله: "آدى آخرة المركب اللى ليها 100 ريس".. من الواضح أن التنظيم هذا العام جرى على غير المعتاد، ربما يكون هناك أنفا جديدة قد دُست فى أعمال التنظيم، أدت إلى تلك العشوائية التى لم تكن أبدا تليق فى حدث بمثل تلك الأهمية.