تقف البشرية، اليوم، على حافة الهاوية لا بسبب الحروب والتهديد بالفناء المعلق على رأسها، فهذا عرض لمرض وليس هو المرض ذاته. ولكن بسبب التواطؤ وعالم الشك والقلق والضياع وإفلاس فى "القيم".
فكيف يمكن أن تنمو الحياة الانسانية فى ظلالها نمواً سليماً سويّا ، وتترقى ترقياً "إيجابياً صحيحاً" ، وهذا واضح كل الوضوح فى سائر ما نراه من مذاهب فكرية والعقائد والمبادئ التى تنبثق اليوم من عقول المفكرين والعلماء والمصلحين ، زاعمة التصدى لحل مشاكل العالم العالمية والاجتماعية وأخرها مشكلة المياه ، للوصول بالإنسانية إلى حياة الخير والرفاه والعدالة الاجتماعية والاقتصادية المنشودة.
إلا أن الثقات العارفين، والعلماء المتتبعين، والمصلحين الغيورين على مصير البشرية ومستقبل الإنسانية ، يدركون مدى ما فى حضارتنا من ضعف ، فهم يرسمون حولها عشرات إشارات الاستفهام ويحيطون بسياج من الشك والقلق والريبة تتابع الحضارة المادية التى تجد نفسها فى موقف صعب للغاية لأنها تلائمنا (الآن ولا نعرف غداً) ، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتها الحقيقية ولا عواقبها على البشرية ، إذ أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية (المفيدة والضارة) ، وشهوات الناس وأوهامهم ، ونظرياتهم ورغباتهم الجامحة إلى التطور المدمر فى كثير من الأحيان.
وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا ، إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمها وشكلنا ، وفطرتنا وطبيعتنا.
والملاحظ أن الأمم التى بلغت فيها "المعاصرة" مداها وأوج نموها ، هى على وجه الدقة الأمم التى تنخر فيها عوامل الضعف والانحطاط ، والتى ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها، ولكنها لا تدرك ذلك (فهى مسألة وقت) ، إذ ليس هناك ما يحميها من الظروف العدائية التى شيدها العلم من حولها.
وحقيقة الأمر أن التحاقنا بالمعاصرة (أى مدينتنا)، مثل المدنيات التى سبقتها ، أوجدت أحوالاً معينة للحياة من شأنها أن تجعل الحياة نفسها مستحيلة بهذا الشكل ، وذلك لأسباب لا تزال غامضة. إلا أنه يمكن القول بأن حالة القلق والعبث والشك والضياع النسبى التى يعانى منها سكان المدن العصرية ، نابعة عن نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فلقد أهمل تأثير المعاصرة على الحالة الفيزيولوجية والعقلية للعاملين هناك اهمالاً يكاد يكون تاماً عند تنظيم الحياة المتمدينة.
الأمر الذى دفعنى لأؤكد أن الحياة فى "المعاصر" أو الحياة "المتمدينة" إنما تنهض على أساس "الحد الأقصى من الانتاج فقط" ، "وبأقل التكاليف" ، حتى يستطيع الفرد أو مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على أكبر قدر مستطاع من المال (لنصبح عالم مادى صرف ). وقد اتسع نطاق هذه النهضة الانتاجية دون أى تفكير جدى فى طبيعة التكوين البشرى للأناس الذين يديرون الآلات ودون أى اعتبار للتأثيرات التى تحدثها طريقة حياة المعاصرة التى يفرضها هذا النظام الجديد على الجيل المعاصر والأجيال القادمة. الأمر الذى ولد الكثير من الاضطراب والخلل النفسى والعضوى لنسبة كبيرة من بنى البشر فى ارجاء المعمورة ، وخاصة فى الدول المتقدمة منها.
وبدلاً من أن يكون الانسان مقياساً لكل شيء ، منه ينبعث الفكر، وعنه تنشأ المبادئ ومن أجله يقوم كل جهاد فكرى وعملى ، فقد أصبح الانسان ترسى فى ميكنة قريباً فى العالم الذى ابتدعه ، بعيدا عن الحياة التى ينشدها، فقد بنى سجناً لسكنه.
* أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة.