أحيانا تكون الأفكار حقيقية، لكنها ليست مناسبة للواقع وغير قابلة للتطبيق، فما يكون طبيعيا فى مجتمع لا يعنى أن يكون كذلك فى كل المجتمعات، فكل مجتمع حسب ظروفه وحسب تركيبته النفسية، والمجتمع المصرى علاقته بالدين علاقة وجود لو لم يجده كان سيخترعه، والتاريخ المصرى القديم يثبت ذلك، أقول هذا بمناسبة الطلب الذى تقدمت به نائبة البرلمان نادية هنرى حول إلغاء مادة التربية الدينية من المدارس، وأن نكتفى فقط بمادة القيم.
بالتأكيد النائبة المحترمة تعرف جيدا أن «مادة الدين» ليست هى المسؤولة عن تردى الأخلاق، ولا تتحمل صناعة العنف والتطرف، ولا تعرف شيئا عن الفتنة الطائفية التى تأتى من الجهل ولا تأتى من العلم، فمعظم الأسباب التى نشأت من ورائها مشكلات الفتنة الطائفية، كانت لأسباب اجتماعية ولا دخل لمادة التربية الدينية، سواء الإسلامية أو المسيحية فى ذلك.
وعلى طول سنوات الدراسة التى مررنا بها، كانت النصوص الدينية الإسلامية تدعو للقيم والأخلاق والفضيلة، ولم تحثنا يوما على كراهية الآخر ولا على قتل النفس، وكل الدروس الدينية التى احتوت عليها مناهج التربية المسيحية، كانت تحكى عن تضحية السيد المسيح من أجل الآخرين، ومن هذه الكتب عرفنا قيما مثل الحمد والصبر والشجاعة والرضا وحب الآخر والتسامح وحب الوطن.
ومن ناحية أخرى، أعتقد أن مادة القيم التى تقصدها نادية هنرى، لن تكون اختراعا جديدا، ولن تبعد عن القيم السامية التى ينشدها الدين القويم، فالنصوص الدينية لا تحمل مشكلة، وعلينا ألا نخلط بينها وبين التفاسير التى يمكن أن نختلف حولها.
والكاتب الصحفى صلاح عيسى، كان قد علق على طلب إلغاء مادة الدين من المدارس قائلا: إن ذلك سيمنح فرصة للمتشددين فى المساجد والزوايا والكنائس، ليتحكموا فى فهم الناس العاديين عن الدين، وهو ما أتفق معه تماما، فالناس لن تتوقف عن طلب المشورة الدينية، وسيسعون إليها حيثما كانت، وإن لم يتعود الناس على تلقى هذا النوع من العلم منذ الصغر فى المدارس، سيصل إليهم من طرق ملتوية لا يعلمها إلا الله.
ومن جانب آخر، فإن إثارة مثل هذه الأمور يكون ضررها أكثر من فائدتها، وستجعل الكثيرين يخرجون علينا مبالغين ومزايدين فى كل شىء، والصواب هو أن تقدم مادة القيم بكل ما تحتويه من معاصرة مهمة وضرورية ومن مجاراة للظروف الحالية، وفى الوقت نفسه نحتفظ بمادة الدين بما لها من خصوصية، ومن تأثير نفسى على التلاميذ يشكل وجدانهم وخصوصيتهم، فالاختلاف ليس عيبا، وأبناؤنا ليسوا للتجربة غير المدروسة.