العلم والتعليم هما قاطرة تقدم وتحضر الأمم، فالتعليم بملاحقته للتطور الإنسانى والتقدم العلمى والتغييرات الاجتماعية لا يقف عند حد معين أو يتجمد عند زمن بذاته، ولذا نرى الدول المتقدمة لا تتوانى ولا تتوقف عن إمداد التعليم والعملية التعليمية بكل جديد وبكل تطور، حتى أننا رأينا أمريكا فى ثمانينيات القرن الماضى خرج من قال إن أمريكا أمة فى خطر، ذلك لأن التعليم فى دول أخرى كان قد أحرز مكانة أسبق من أمريكا، ولذا نرى أن هذه المقولة تختصر أهمية ودور التعليم فى حياة الأمم والشعوب، كما أن التعليم بنتائجه لا يقتصر على مسايرة التقدم فى العالم، ولكنه هو البوتقة الذهبية التى تنصهر فيها الشخصية المصرية الجماعية متمسكة بهويتها المصرية وثابتة على قواعدها الوطنية، والتعليم الرسمى والوطنى يزيل ويسقط الفوارق بين الطبقات، الشىء الذى يعزز ويقوى الانتماء للوطن فى الوقت الذى يقوم فيه التعليم بدور مهم فى الانتقال الطبقى والفئوى والمهنى إلى أعلى بعيدًا عن مصادر الغنى غير المشروعة، نقول هنا التعليم الحكومى الرسمى فهو الذى مازالت آثاره قائمة حتى الآن فى تكوين الشخصية المصرية المنتمية إلى الوطن بعيدًا عن الانتماءات الجزئية والثانوية طبقيًا وفئويًا وطائفيًا واجتماعيًا.
فما هو الوضع الآن بعد تعدد وتكاثر أنواع التعليم الذى تجاوز كل الحدود والذى ينتج تعددًا طبقيًا وتمايزًا اجتماعيًا وفوارق اقتصادية وتناقضات ثقافية وصراعات طائفية، فتكون النتيجة غياب الانتماء للوطن وتفكك اللحمة الوطنية والانكفاء الدينى، وعدم قبول الآخر وكلها عوامل تفكك لا توحد، فالتعليم الدينى.. نعم التعليم بدأ فى مصر تعليمًا دينياً بديلاً لغياب التعليم الرسمى والعام، فكان الأزهر ومدارس الكنائس، ولكن كان ذلك فى ظروف ومعطيات تفرض ذلك، حيث كان النظام الطائفى هو السائد فى المجتمع، ولكن الآن وبعد هذه التطورات الدستورية والحقوقية والقانونية والتى لا تفرق بين مصرى وآخر يجب ألا نترك المجال لهذه النوعية من التعليم الطائفى والدينى، والتى تبدأ، للأسف، من رياض الأطفال، فهناك حضانة الزهراء فى مقابل حضانة العذراء وهذه المرحلية تعتمد على الجانب الدينى الأحادى، فالمدرسة والحضانة هما المجال العام للمصريين فى التعليم وتكوين الشخصية المصرية، هذا غير دور المسجد والكنيسة والمؤسسات الدينية فى ذلك، وهذا الخلط يخلق طريقًا للمسار الدينى الأحادى، الشىء الذى يزرع فكرة رفض الآخر بامتياز، حيث إن زمالة الدراسة هى الطريق المهم لزرع التوحد وقبول الآخر، هذا بالإضافة إلى هذه التعددية الطبقية فى مدارس خاصة تجاوزت مصروفاتها الخيال بالنسبة لطبقات الشعب التى تمثل الغالبية الغالبة، مما يولد حالة عامة من الاغتراب، وهناك تعددية ثقافية تتمثل فى نوعيات التعليم الأجنبى الذى حول الوطن إلى جاليات أجنبية تقوم بأخطر دور فى محو الهوية الوطنية ومسخ الثقافة المصرية والترفع عن الانتماء للوطن، وإسقاط اللغة العربية، وهى أداة الفكر المصرى والوطن والقومى.
ناهيك عن حالات التمايز والمغايرة التى تتناقض مع حقوق المواطنة وتسقط وسائل الانتماء للوطن، ولذلك فلا غرابة بعد هذه العقود التى ابتلينا فيها بهذه التعددية التعليمية أن نرى هذه الحالة من الانتماء للوطن الذى أصبح انتماءً نظريًا شعاراتيًا، وأن نرى من يتعالى على الوطن فلا يحترم العلم ولا يقدر السلام الوطنى، وأن نرى هذه الحالة الغريبة من إسقاط القيم وغياب الأخلاق وانتشار الفساد، وبالطبع فالحديث عن ثورة تعليمية ليس وليد اللحظة، ولكنه كلمة السر منذ عشرات السنين لكل الحكومات المتتابعة وهى الخطط النظرية التى لا ترى النور ولا تشاهد التطبيق على أرض الواقع، هنا نسمع أن وزير التعليم لديه خطة تعليمية يمكن أن تكون ثورة حقيقية للنهوض بالتعليم قولاً وعملاً، علَّ وعسى.. وبالطبع للتعود على حديث الإصلاح التعليمى فقد أصبح المواطن فاقدًا كل الفقد لأى أمل فى أى إصلاح. يقول الخطة المعلنة فى الإعلام، والتى لم تصل حتى الآن للبرلمان وكأن من حق الحكومة أن تفرض هذه الثورة التعليمية بعيدًا عن الشعب ممثلا فى البرلمان، خاصة أن هذه الخطة لن تطبق قبل إصدار التشريع مع العلم أنه لم يتبق غير أربعة أشهر للتطبيق فى الوقت الذى سينهى فيه البرلمان الدورة بعد شهرين؟ كما أننا وحتى الآن لم نرَ أى حوار مجتمعى من أى نوع لهذه الخطة لا على مستوى لطلاب وأولياء الأمور ولا على مستوى المتخصصين من أساتذة التربية، والأهم هو إعداد المعلمين الذين سيقومون بتنفيذ هذه الخطة، خاصة أنها تعتمد على الجانب التكنولوجى «التابلت»، وهل هذا النظام سيوفر معلمين يتم الاستغناء عنهم؟ أما بالنسبة لاستخدام التابلت عوضًا عن الكتابة، فماذا لو فقد التابلت؟ أو تعطل؟ ماذا لو ضاعت أو تعطلت شبكة الإنترنت خاصة أثناء الامتحانات؟ هل هناك بدائل أو هل هناك طرح لهذه الأسئلة فتكون هناك إجابات؟ أذكر هنا وأنا عضو مجلس شعب صدر قانون إلغاء «السادسة الابتدائى»، وأفخر بأننى العضو الوحيد الذى اعترض على الإلغاء فى مواجهة فتحى سرور، وزير التعليم، والأهم أن «السادسة» عادت ومعها مشاكل ما زال التعليم يعانى منها حتى الآن.
نحن مع ثورة تعليمية حقيقية للنهوض بالوطن.. ننتظر عودة التعليم مناهج ومعلمين للقيام بالدور الأهم فى تكوين الشخصية المصرية الوطنية، فالثورة العلمية فى العالم لم تسقط الانتماء الوطنى للدول، وما الصراع القائم غير صراعات لصالح الدول الأقوى على حساب الأضعف، التعليم هو العلم والقيم والأخلاق والانتماء وقبول الآخر وهو ما يجعل مصر وطناً لكل المصريين.