الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد
يَدَّعى بعض المتعالمين كذبًا وزورًا أن الإسلام ضد الفن بالكلية وضد الموهبة، ويستدلون بقوله تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ «الشعراء الآية (224)» بل إن بعضهم نظر إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ﴾ «يس من الآية (69)» واعتبر الآية دليلًا على أن عدم قول الشعر منقبة يمدح عليها المسلم، ولا شك فى أن هذا فهم سقيم لآيات الذكر الحكيم، فالآية الأولى عندما نقرأها فى سياقها كاملا دون اقتطاع نفهم المراد الحقيقى منها؛ حيث يقول تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا.. (227)﴾، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن لم يقل الشعر ولم يعلِّمه الله إياه، إلا أنه كان صاحب ذوق سليم، يعجبه الكلام الطيب والأسلوب الراقى، ويميز الحسن من القبيح، كما أن أحد أساطين الشعر فى هذا الوقت لُقِّب بشاعر الرسول، هذا الشاعر هو أبوالوليد حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجى الأنصارى، والإسلام يقف من الشعر موقفًا يتسم بالحكمة ويزنه بميزان ما جاء به من الهداية والخير، وهو فى الوقت ذاته يظهر التقدير لهذا الفن، ويعتبره سلاحًا ماضيًا من الأسلحة العربية التى لا يستغنى عنها صاحب دعوة فى ترقيق القلوب وتهذيب النفوس، لذا أخذ سيدنا حسان بن ثابت مكانًا مميزًا بين أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث كان شاعر الأنصار فى الجاهلية، وشاعر النبىّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد إسلامه رضى الله عنه وأرضاه، عاش ستين سنة فى الجاهلية وستين سنة فى الإسلام، ولد فى يثرب قبل البعثة النبوية فى بيت عز وشرف، لأب يُعدُّ من سادات قومه وأشرافهم، فاتجه سيدنا حسان فى بداية حياته إلى اللهو والترف، ولما قامت الحرب بين الأوس والخزرج ذاعت شهرته كشاعر الخزرج الذى يعبر عنهم ويهاجم عدوهم، ثم انتقل إلى مرحلة جديدة من حياته فى الجاهلية فمدح الغساسنة فأكرموه وأغدقوا عليه الأموال، لكن نقطة التحول الحقيقية فى حياته كانت عندما بلغ الستين من عمره، وسمع بالإسلام، فدخل فيه بسهولة ويسر، لأنه كشاعر ببعده التكوينى، وبعده الشعورى، وبعده البيئى، مرهف الحس رقيق المشاعر، يدرك من أول وهلة معدن الكلام الذى يسمعه، ويفطن إلى أنه ليس بقول بشر، وبعد إسلامه تتغير حياته تغيرًا تامًّا فينتقل من شخص يعيش على هامش الحياة ليمدح هذا ويذم ذاك، إلى شاعر يحمل لواء رد كيد المعتدين على الدين الإسلامى، فهو شاعر عبقرى أعطاه الله تعالى موهبة فذة فى الشعر أدركها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوضع مفتاح عبقريته فى مكانها المناسب، فأنبتت نباتًا حسنًا، فبدلًا من شعر التكسب والاستجداء والعصبية الجاهلية، يوجهه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للشعر النضالى من أجل قضايا أمته، فيتزين شعر سيدنا حسان بن ثابت بمحبته الجياشة لرسول الله، مما منح شِعره نقاءً وجمالًا كان ينقصه أيام الجاهلية، فاستخدم موهبته الممزوجة بمحبته لخدمة أهداف دينه النبيلة وغاياته العظيمة، فتكلم فى قصائد متفرقة عن الدعوة الإسلامية وأصولها وما اشتملت عليه من أخلاق وقيم راقية.