سألنى أحد أصدقائى معلقا على مقال أمس الذى دعوت فيه إلى اتخاذ تيمة فنية تميز كل حى من أحياء القاهرة، مستمدة من تاريخ هذا الحى، مندهشا: هل صحيح كل حى فى القاهرة له هذه الجذور التاريخية العميقة؟ فأجبته: وأكثر، وأكثر، وأكثر.
من سؤال صديقى المندهش اكتشفت أننا نعيش فى بلد عمر حضارته المشهودة 7 آلاف، لكننا للأسف لا نعرف كيف تكون هذه الحضارة وكيف نمت وكيف تجلت فى العديد من المناطق التى شهدت أول إسهامات البشرية فى التفاعل الحضارى مع محيطها، وقد كنت ألمح الدهشة أيضا فى عيون من أحدثهم عن الحى الذى نشأت فيه وتربيت «حى المطرية»، وأنا أتحدث مأخوذا بالفخر عن تلك الحضارة التى استنزفها اللصوص وسرقها الإهمال وبددها الجهل والتخلف والنكران، فغالبية من يعيشون فى المطرية لا يعرفون إلا أقل القليل عن حضارتها، ولا يدركون أنهم يتنفسون نفس الهواء الذى تنفسه أعظم فلاسفة العالم وأعظم معمارييها، وأعظم علمائها، وأعظم أنبيائها، ولهذا تحولت «المطرية» كما تحول غيرها من أحياء عظيمة إلى لقمة سائغة بين فكى العشوائية، مما كان دافعا لتخريبها بأيدى أبنائها وأيدى العابثين.
من هنا أعيد الدعوة إلى أهمية تدريس تاريخ الأحياء السكنية فى مصر لأبنائها، أو على الأقل أن تدرس كل محافظة لطلابها تاريخها منفصلا ومتصلا، ولكى لا نثقل على أبنائنا بإضافة مادة جديدة إلى مواد الدراسة أقترح أن تكون هذه المادة مادة اطلاع فحسب لا مادة «اختبار»، بمعنى أن نكتفى فإلقاء محاضرات متخصصة فى تاريخ كل حى أو كل محافظة، ويكون النجاح فى هذه المحاضرات بالحضور فحسب، وذلك على غرار كورس التربية العسكرية التى حضرناه فى الجامعة.
نزعم جميعا أن حب الوطن يبدأ من الأسرة، لكننا لا نجتهد فى تتبع حلقات هذا الحب حتى نصل إلى حب معنى الوطن الشامل، فنعم حب الوطن يبدأ من الأسرة، لكن الانتماء إليه بكل الجوارح يمر بالعديد من المراحل، منها حب الجيران وودهم، ومنها حب الشارع الذى تسكن فيه، ومنها حب المدرسة التى تتعلم فيها والحى الذى تسكنه، والجامعة التى تتخرج فيها، والمؤسسة التى تعمل بها، ولا بد أن ندعم هذا الحب بكل ما أوتينا من قوة حتى يتحول أبناء مصر إلى بنيان مرصوص يتقنون لغة المحبة، ويتسلحون بكل أسلحة الانتماء، والفخر بما تملك أول طريق تمسك به، والزهو بما تنجز أول طريق السواء النفسى.