يعيش الناس من أجل غاية هذه الغاية، وهى تحقيق طموحاتهم التى يبحثون عنها، وآمالهم التى ولدت معهم بعد أن كبروا ليحلموا وتداعب خيالاتهم الأمانى، حين لا يبدو العالم مفتوحا لتحقيق تلك الآمال والأمانى، ويبدو أن هناك جدرا تحول بين الناس وتحقيق ما يحلمون به فإن اليأس يتسرب إلى وجدانهم وإلى عالمهم الذى ضاق بعد أن كان الحلم يفتحه على أفق انتظار الأمل.
الإحباط واليأس وانسداد الآفاق هى أكبر الآفات التى تصيب النفس البشرية، يختلط مع تلك المشاعر السلبية غياب المثل لعالم يكذب دائما يقول إننا مجتمع يتساوى فيه الجميع، فقط الإمكانيات والمؤهلات وليست الجدارة الاجتماعية والدماء الزرقاء ولا الانتماء لطائفة أو مهنة أو أسرة هى الذى يحدد معايير الترقى الاجتماعى والحراك إلى أعلى.
كل ما سقناه فى الأسطر السابقة ينطبق على الشباب، وينطبق بشكل خاص على الشباب القادم من الطبقة الوسطى الدنيا والفقيرة وربما قطاعات الطبقة الوسطى العليا الدنيا، هؤلاء الذين فتح لهم التعليم السبيل للترقى والصعود الاجتماعى عبر الحصول على شهادات تمكنهم من الالتحاق بوظائف فى الدولة أو تمكنهم من خلال تخصصاتهم العلمية للانفتاح على مشروعات بما فيها المخترعات والأفكارالجديدة لتنفيذها، وحين لا يجد أولئك المتعلمون الشباب القادمون من الطبقات التى تحاول التحرر من أغلال ثقل الحاجة والانفتاح على يسر مادى يكفل لهم تحقيق أمنياتهم وآمالهم والآمال المعلقة عليهم من أسرهم ومجتمعاتهم الصغيرة فى الريف أو فى القرى والتى تود أن يصل أحد من أبنائها إلى مراكز مرموقة.
حين يحصل الشاب على شهادته مثلا فى الهندسة أو الطب أو الكيمياء أو الاقتصاد أو الإدارة، فإنه يتولد لديه توقع استلهمه من الآمال التى داعبته طوال مسيرته العلمية، وهذه التوقعات.
والثقة فى وعود أمته له بالمساواة والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية ينكسر حين يخرج فلا يجد مساواة فى الفرص المتاحة للمواطنين، وإنما يتم السؤال على الجدارة الاجتماعية للعائلة، كما حدث فى وزارة الخارجية التى رفضت طالب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عبدالحميد شتا، رغم أنه كان الأول على المتقدمين البالغ عدده ثلاثة وأربعين، وجاء فى أسباب رفض قبوله بالخارجية أنه غير لائق اجتماعيا لأنه والده فلاح بسيط عبدالحميد لم يتحمل الصدمة فانتحر.
فجوة التوقعات بين الآمال وما يجرى فى الواقع هى جوهر نظرية الحرمان النسبى، وهى تعمل بشكل قوى بين الناجحين المحبطين، أى أولئك الذين لديهم فرص وتوقعات تسندها مؤهلاتهم ومستوى تعليمهم ولأنهم قادمون من بيئات ليست متحالفة مع من يقبضون على الثروة والسلطة فإنهم لا يفتح لهم باب أمل، ومن ثم فإنهم ينتحرون مباشرة، كما فعل عبدالحميد شتا، أو يذهبون للتنظيمات المتطرفة لينخرطوا هناك فى قوائم الصف الأولى للانتحاريين والانغماسيين، إنهم يبحثون عن المعنى فى عدالة تصورها موجودة فى السماء أو فى الغيب أو فى الجنة حينما عزت عليهم فى الأرض، بسبب ظلمهم أهليهم وذوى قراباتهم.
وقد قرأت عن «مهندسو الجهاد» ويحاول كاتبه أن يقول لماذا المهندسون أغلبية فى التنظيمات الجهادية المتشددة، فبالإضافة لطبيعة الدراسات البحتة ذات النتائج النهائية اليقينية الملموسة، ومن ثم طبيعة العقل تتجه للبحث عن ذلك اليقين فى الدين، فإن البعد الاقتصادى - الاجتماعى لحالة المهندسين الذين لا يجدون واقعا يمنحهم فرصا تحقق آمالهم وطموحاتهم يجعلهم يذهبون بإمكانياتهم تلك إلى التنظيمات الجهادية المتشددة.
لا بد إذن من أن تمنح الدولة لمواطنيها المعنى والأمل فى انفتاح أفق للجميع يتبارون فيه ويتنافسون دون تمييز بينهم إلا بمقدار ما يملكه أيهم من التعليم والكفاءة، وحين لا تقوم الدولة بذلك فإن مواطنيها يبحثون عن المعنى خارجها حتى لو قاد ذلك لذهابهم من الدنيا كلها بالإقدام على عمليات انتحارية، ضمن خطط التنظيمات الدينية المتطرفة.