معلوم لدى الجميع أن التكاليف الشرعية فى الإسلام قد فُرضت وشُرعت لحِكم كثيرة يعود نفعها على المكلفين، لا لتضيف أو تزيد فى ملك الله شيئًا؛ فهو غنى عن خلقه قادر على إدخالهم الجنة بلا حساب. وهذه التكاليف التى فرضها الله على عباده تميز المؤمن المطيع لأوامر ربه جل وعز عمن شأنه شأن الذى كرمنا ربنا وفضلنا عليه بأن ميزنا عنه بالعقل الذى هو أساس التكليف، وأداته الدافعة للجوارح لتنفيذه قولًا وفعلًا، فإذا نضج العقل وسلم وُجد التكليف، وإذا نقص أو اختل سقط التكليف أو نقص بمقدار الخلل.
وحج بيت الله الحرام هو خاتم أركان الإسلام الخمسة، شأنه شأن غيره من التكاليف التى فرضها الله عز وجل على عباده لتهذيبهم وتدريب أنفسهم وأرواحهم على الخير والتآلف والاتحاد ومكارم الأخلاق، لا لمعاقبتهم بدنيًا أو ماليًا. والمتأمل لفريضة الحج لا يعدم إدراك بعض الحِكم من وراء فرضها، ويكون ذلك على قدر تأمله وقدرته على ربط المقدمات بنتائجها، فقد ثبتت فرضية الحج على القادرين يقينًا بجملة من الأدلة القطعية الواردة فى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومنها قوله تعالى: « وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، وعن أبى هريرة - رضى الله عنه – قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم. ثم قال: ذرونى ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فدعوه».
وفوق كون أداء فريضة الحج للقادرين عليه تعبديًا لا يرتبط بالضرورة بإدراك الحكمة ما دامت ثبتت فرضيته يقينًا، فإن فى الحج من الحِكم البالغة جماع ما فى غيره من التكاليف الشرعية الأخرى وزيادة عليها؛ فإن كانت الصلاة لابتلاء البدن وضوءًا وقيامًا وركوعًا وسجودًا متكررًا فى اليوم الواحد، فإن ابتلاء البدن فى الحج أكبر؛ إذ لا يصبر عليه إلا الأشداء، بخلاف الصلاة المقدورة للضعفاء والمرضى مهما كانت درجة مرضهم. وإن كان الابتلاء فى زكاة المال مثلًا بجزء يسير من المال يقدر بـ2.5 فى المائة، وهو ما يعنى بقاء 97.5 فى المائة من جملة المال لصاحبه، فإن تكلفة الحج قد لا يبقى بعدها للحاج من ماله شىء، فمَن لم يملك من المال إلا ما يكفيه فى رحلة الحج زائدًا على نفقة عياله حتى يعود، لزمه الحج وإن عاد فقيرًا بعد حجه، وهذا ابتلاء يزيد ثقلًا على النفس البشرية أضعافًا مضاعفة عن الابتلاء المقصود فى الزكاة. ولا تخفى الحكمة من الابتلاء البدنى فى الصلاة أو الحج أو غيرهما من العبادات، وهى إثبات استعداد البدن لأداء وتحمل ما كلفه به خالقه، وإن تعارضت التكاليف مع طبيعة النفس البشرية التى تميل إلى الراحة والكسل. وابتلاء المال لا يقل ثقلًا على النفس من الابتلاء البدنى، بل ربما يزيد، فأحسب أن الناس لو خُيروا بين الصلاة والصيام ودفع المال بديلًا عنهما للزموا الصلاة والصيام توفيرًا للمال الذى تتعلق به النفوس، وتُبذل من أجل تحصيله الجهود، ويتحمل الإنسان فى سبيل الحصول عليه الأعمال الشاقة، ولمَ لا وقد قال ربنا عز وجل: «وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا»؟! وإن كان فى الصوم ابتلاء بالصبر على الشهوات لساعات معدودة من مطلع الفجر إلى غروب الشمس، فإن ابتلاء الصبر على الشهوات فى الحج أشق على النفس؛ إذ يكون لأيام متواصلة هى مدة الإحرام، وقد يصاحب الزوج زوجته فى رحلة الحج فيزداد الأمر صعوبة ومشقة ومجاهدة للنفس.
ومن ثم، كان الحج جامعًا لكثير من الابتلاءات التى تنطوى عليها أغلب التكاليف الشرعية، وبنجاح الحاج فى الصبر على هذه الابتلاءات وكبح جموح النفس عن شهواتها، يكون قد اجتاز الامتحان النهائى الجامع، وما عليه بعدئذ إلا الحفاظ على الدرجات التى نالها انتظارًا للثواب العظيم والأجر الكريم وهو دخول الجنة.
وهناك حكمة أخرى تحققها فريضة الحج، وهى حكمة الاجتماع من أجل التعارف والتآلف التى يتدرب عليها الصبى بمجرد بلوغه مرحلة التمييز والتكليف؛ إذ يجد نفسه مطالبًا بأن يكون بين المصلين سواء فى جماعة صغيرة فى بيته مع أسرته أو فى جماعة أكبر فى المسجد خمس مرات فى اليوم الواحد، ثم فى المسجد الجامع مرة فى الأسبوع لصلاة الجمعة، ومرتين فى العام لصلاة العيدين، إضافة لاجتماعات تكون فى صلوات بعض السنن كالتراويح والخسوف والكسوف وغيرها. وهذا التدريب الذى ينشأ عليه المسلم متدرجًا مع مراحل عمره يتجسد فى الاجتماع الأكبر، مرة فى العمر على الأقل، وهو اجتماع الحج الذى يتضاعف فيه عدد المجتمعين آلاف الأضعاف عن الاجتماعات التى درج عليها المسلم فى عمره، ليرى من الجنسيات والألوان واللغات والثقافات والأعراق ما لم يره من قبل، فيقف على عظمة الخالق وقدرته، فهذه الحشود من الملايين المجتمعين فى الحج من أب واحد وأم واحدة، لكنهم يختلفون فى الألوان والأعراق والألسنة، ومع ذلك تجدهم يتحدون فى أداء الشعائر والمناسك والتلبية طلبًا لهدف واحد وهو مغفرة الخالق عز وجل الذى أمر المستطيعين بالحج فلبوا وامتثلوا.
وهذا المؤتمر السنوى الحاشد الذى تجتمع فيه مختلف الأعراق والألسنة والألوان والجنسيات والثقافات يحقق الحكمة من خلق الناس جميعًا، تلك الحكمة التى أخبر عنها ربنا سبحانه فى قوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا». وهذا التعارف والتلاقى هو اللبنة التى ينبغى أن تقوم عليها وحدة الأمة ممثلة فى وحدة الصف ووحدة الترابط والتواصل ووحدة الكلمة ووحدة الهدف ووحدة القرار.. إلخ، حتى نكون كما ينبغى أن يكون المسلمون فيما بينهم؛ كالجسد الواحد الذى إذا اشتكى منه عضو فى أقصى الأرض شرقًا هبَّ لنصرته مَن فى أقصاها غربًا وشمالًا وجنوبًا، فليست الوحدة محصورة فى معناها الضيق الذى يتمسك به البعض من وحدة الأرض ووحدة الحاكم، فإذا كان الزمان قد تجاوز هذه الوحدة لعوامل كثيرة ذكرناها فى مقال سابق، فقد بقى الزمان والمكان مناسبان لوحدة التكامل والتضامن بين المسلمين أينما وجدوا.
وأخيرًا أقول إننا لو طبقنا هذه الحكمة العظيمة التى تتمثل فى التعارف والتآلف والوحدة؛ لما نسينا، أو تناسينا، المشردين من الروهينجا فى كوكس بازار، ولا المعذبين من أطفال ونساء وشيوخ فلسطين وسوريا واليمن وليبيا، وغيرها من المآسى والفواجع التى يراد لها أن تستوطن منطقتنا المنكوبة!