لم يخطر بباله يوما أن ينتهى به المطاف هنا، بائع فى محل أخذية. لا يخجل عبد الله من المهنة التى فرضتها عليه ظروف لا يد له فيها، فلا يجوز له أن يقلل من عمل شريف هكذا لقنه والده، لكنه أحيانا يتطلع إلى السماء متسائلا فى لوم: "كيف أكون طبيبا ينتظرنى مستقبل ظننته مبهرا، فينتهى بى الحال هنا فى محل صغير بالعتبة. أبيع الأحذية، "يزغر" لى صاحب المحل إذا فشلت فى إقناع الزبون أن هذا الحذاء أو ذاك يناسبه.
فى أول يوم له بالعمل، لقنه صاحب المحل الحاج محمد - هكذا يحرص أن يناديه الجميع - بعض الحيل لإقناع الزبائن، إذا كان الحذاء ضيقا ولا يوجد مقاس أكبر، على البائع الخبير أن يبادر الزبون قائلا: "هتريح فى اللبس"، أما إذا كان الحذاء كبير ولا يوجد مقاس أصغر فعليه إقناع الزبون: "المقاس يصغر نمرة لما نزود فرش تانى".
الحاج محمد يرى المشترى دائما مترددا ويحتاج لمن يأخذ بيده، وعلى البائع الشاطر أن يقنعه بما لديه.
لم يعتبر عبد الله تلك الحيل سُبلا للإقناع كما أخبره صاحب المحل بل رآها طرقا مبتكرة للاحتيال، لكنه لا يملك رفاهية الجدال، فأبدى تفهما واستيعابا كبيرا لدروس ونصائح الحاج.
لم يطبق عبد الله شيئا من تلك الدروس، إلا إذا لمح الحاج يقترب منه متلصصا يتسمع إلى حواره مع الزبائن، ليطمئن الرجل على تجارته وماله. آنذاك يتظاهر عبد الله بمحاولة إقناع الزبون بالشراء مرددا جملة من دروس الحاج حتى وإن كانت لا تناسب الموقف، كأن يقول للزبون "الجزمة هتريح فى اللبس" بينما يشكو الرجل من اتساعها.
يدرك عبد الله جيدا أنه لا يستطيع التخلى عن هذا العمل البسيط، حتى وإن كان فيه شبهة احتيال كما يعتقد، وإلا كيف يعيش فى القاهرة وهى لا ترحم الرجل العامل، فما بالك بالخالى منه. ولا تحنو على أبنائها فماذا تصنع بالغرباء أمثاله؟
فى قريته الصغيرة بشرق السودان كان أهل البلدة يشفقون على أصحاب البشرة البيضاء من أبناء الشمال التابعين لبعثات الأمم المتحدة. يفخرون ببشرتهم السمراء التى منحها الله لهم، يحمدونه عليها، لم يدرك وقتها أنه سيأتى يوما ويتبدل الحال، وتصبح بشرته السمراء الداكنة جواز سفر للتجاوز فى حقه، أو دافعا للارتياب منه كما رأى هنا فى شوارع القاهرة.
تذكر يوم قرر أصدقاؤه الفارين مثله من جحيم الحرب بالسودان أن يتخذوا موقفا إيجابيا تجاه تعنت مفوضية شئون اللاجئين التى تحول دون تحقيق حلمهم بالهجرة إلى دول الشمال فى أوروبا. تزعم المفوضية أن الحرب انتهت وأن السلام قد عم أرجاء السودان. فلماذا لا يعودون إلى بلدهم؟
فيردون: أهل مكة أدرى بشعابها، وما يقال على شاشات الفضائيات لا محل له من الإعراب على أرض الواقع. إنه الجحيم ينتظرنا إذا عدنا.
تتمسك المفوضية بما ترى ولا ترى إلا ما ترى. لا ينفعهم الصراخ أن القاهرة ليست قبلتهم، فهم لا يريدون الحياة من جديد على ضفاف النيل. لم يذوقوا منه إلا مَرارا على اتساعه فى بلادهم، فكيف يتوقعون منه خيرا وهو يختنق هنا فى القاهرة.
قرروا البقاء فى حديقة الميدان الكبير بالقرب من مقر المفوضية لعلها تلين، وتخضع لرغباتهم. مرت أيام والمفوضية لم تغير رأيها، ولم يقبل أصحاب الأرض التجمهر بالميدان، فأنفض الجمع غصبا.
بعد صلاة الجمعة عرف عبد الله الأخبار. مات عبد المولى صديقه وبعض الأصدقاء معه. تذكر محاولات عبد المولى لإقناعه بالمشاركة معهم فى الاعتصام، يومها ابتسم عبد الله قائلا: "مفيش فايدة".
ابتسم لأن صديق عمره ارتاح أخيرا، تطلع إلى السماء مناجيا بعينين تفيضا بماءٍ يعكره الغضب والحزن:
"أنت ربى، وأنت تعلم لكنى لا أعلم لماذا تفعل بنا هذا؟
هل يجب أن أصبر، أم أن أدعى الصبر، وألعب دور الراضى بقضاء ربه.. ألعب هذا الدور كذبا.. أو لن تعلم أنى كاذب؟ أنى أدعى الرضا ولست براضٍ، بل أنى فى الحقيقة ساخط على قضائك.
لا أفهم لماذا خلقتنى فى ذاك الركن المظلم من الكون، لماذا؟.. هل تختبر قدرتى على التحمل؟.. ها أنا أقولها لك صراحة لقد فشلت.. فهل لى أن أُسلم أوراق إجابتى بيضاء من غير سوء، وأغادر لجنة امتحانك الأن؟.. شهدت منذ أدركت وجودى أنه لا إله إلا أنت سبحانك، وأن محمدا عبدك ورسولك. لم أعرف غير الإسلام دينا ورثناه عن أبائنا وأجدادنا. ولم نشُك يوما أن أباءنا على ضلال. أخبرنى أكانوا على ضلال؟ ربما.. لم يشُك عبد المولى يوما أن أباه على ضلال يوم أورثه الإيمان بك، فأين هو الآن؟ بالطبع عرفت، إنه فى طريقه إليك.. هل أشفقت عليه فأخذته إليك لتسترضيه مما نلقاه من عبادك المؤمنين هنا؟
- لو سمحت مقاس 45 أسود، وأشار الرجل إلى الحذاء الذى يقصده.
أحضر عبدالله زوج الأحذية التى طلبها الرجل، وردد فى تلقائية:
"جزمة ممتازة لو ضيقة هتريح فى اللبس ولو واسعة حطلها فرش".