قبل أن تبدأ فى القراءة على الكاتب أن يؤكد أنه بمرور السنوات ومع ازدياد الخبرة، فإن كاتب المقال من أشد معارضى انتهاج العنف كوسيلة لحل أى خلاف مهما بلغ حدوده القصوى؛ فالعنف لا يولد إلا عنفا مضادا ولا تخلق أثاره سوى نزعات ثأرية دموية لا تليق سوى بالغربان أو الذئاب.
لعل السؤال الأهم الذى يجب أن يطرح دائماً لإيجاد حل لأى معضلة هو ما يبدأ بأداة الاستفهام "لماذا" ثم يُلحَق بسؤال "من المستفيد؟"، ومن هنا نستطيع استبعاد أو إضافة سيناريوهات مختلفة محتملة كانت أو لا.
إذا لماذا اختفى جمال خاشقجى فى هذا التوقيت؟
ومن هو المستفيد من وراء اختفائه؟
وبالتالى هل تتضرر المملكة العربية السعودية من قصة الاختفاء وما هو حجم الضرر؟!
إذا هل من الجائز أن نتوجه بسؤال آخر لا عبث فيه وإنما يستند إلى ما هو متوافر من معلومات أو حقائق حول عمل أجهزة المخابرات مثل؛ هل سبق أن قام الجهاز الأمنى أو الاستخباراتى لأى دولة باغتيال معارض أو حتى عدو داخل سفاراتها أو قنصلياتها من قبل؟.
الإجابة القاطعة "لا"، بل إن الكيان الصهيونى بكل ما يحمله من إجرام لم يفعلها قط، حتى أنه عندما قام الموساد باغتيال الشهيد "عمر النايف" فقد قام بتنفيذ العملية عندما لجأ النايف إلى السفارة الفلسطينية بـ(صوفيا/بلغاريا) لدرجة أن بعضا من رفاقه تندروا ساخطين على الإجراءات الأمنية داخل السفارة، وأنه كان عليه أن يلجأ لسفارة إسرائيل حفاظا على حياته.
منذ متى تعرض الدول نفسها للوقوع داخل دائرة الاتهام المباشر باغتيال معارضيها أو أعدائها داخل مكاتبها الرسمية وتفتح على نفسها أبواب الجحيم؟!
إذا افترضنا جدلا أن السلطات السعودية قد اتخذت قرارا بتصفية "خاشقجى" - وهو الأمر الذى لا يقبله عقل الكاتب - هل كانت عاجزة عن رصده فى الولايات المتحدة الأمريكية طوال مدة إقامته فيها وهى الدولة التى تحظى بمركز متقدم فيما يتعلق بمعدلات الجريمة والعنف على كافة أشكاله؟، أو تراها كانت عاجزة عن رصده مرتين داخل تركيا، الأولى عند زيارته للقنصلية فى المرة الأولى وهى الزيارة التى وصفها " خاشقجى" لصديقه "عزام التميمى" بأنها كانت ممتلئة بالحفاوة على حد تعبيره، والثانية عند مغادرته للقنصلية وتصفيته أن أرادت داخل أحد الأزقة أو الحارات مطعونا أو مضروبا على رأسه.
هل خاشقجى يشكل خطرا داهما على المملكة لدرجة التصفية؟! بالقطع لا؛ فهو لا يعدو مجرد كاتب وصحفى معارض لسياسات أو إجراءات... إلخ.
هل عملية قتل خاشقجى تحتاج لـ 15 عنصرا أمنيا سعوديا للتخلص منه كما تحاول أن تروج السلطات التركية؟! بالقطع لا؛ فهو رجل كهل لا يستطيع مقاومة مراهق تافه فى عراك شوارع.
هل تحتاج أجهزة المخابرات لتقطيع جسد شخص ما لإخفاء الجريمة البشعة؟! بالقطع لا؛ فلقد صار من المتعارف عليه بين أجهزة المخابرات أن أفضل طرق إخفاء هذه الجثامين يتم عن طريق إذابتها فى حامض الهايدروكلوريك أو السالفوريك المركز (وهى مواد منتشرة فى كل الأسواق العادية) ثم التخلص من السائل النهائى فى المجارير.
نأتى هنا إلى "لماذا" ومن ثَم "من المستفيد" أو العكس.
يعانى تنظيم الإخوان من عدم وجود قضية محددة لخلق التفاف حولها وجذب أنظار الصحافة الدولية وأطراف المجتمع الدولى حولها بعد انحسار الحديث حول التنظيم كجماعة سياسية تعانى من الاضطهاد، بل لعل هذا الكلام لم يعد مطروحا على أى من صفحات المطبوعات الكبرى أو أى من حلقات البرامج التليفزيونية الشهيرة، فلا تستبعد أن يظهر خاشقجى فجأة بعد فترة ليتحدث بخيال خصب عن حدوتة اختطافه من قِبل جهاز استخباراتى عربى، وأنهم قد أفلتوه بسبب تزايد الضغوط الدولية وبهذا يخرج خاشقجى رابحا وتخرج الجماعة رابحة وتخرج تركيا رابحة بوصفها قبلة المظلومين.
هل يجب أن نستبعد سؤالا آخر قد يفرض جدلا ما؛ وهو لماذا لا يتم تقويض القوة الاقتصادية السعودية وقدراتها الدبلوماسية بضربة واحدة عن طريق اغتيال جمال خاشقجى وإلصاق التهمة بقصر الحكم فى الرياض؟، فقطر متضررة من السعودية أيما ضرر على المستويين الاقتصادى والدبلوماسى، وتنظيم الإخوان يتضرر بالتبعية من جراء الهزات الاقتصادية القطرية والتى تشكل له حافظة الأموال الأكثر سخاء، وبالتالى فإن أى ضرر اقتصادى ودبلوماسى يلحق بالرياض يَصْب فى المصلحة المباشرة لقطر وتنظيم الإخوان، إذا ما الضير فى التضحية بخاشقجى مقابل الحصول على مكاسب أكبر وإلحاق أذى أفدح بالمملكة؟.
ألم تفعلها قطر من قبل؟ ألم يكررها تنظيم الإخوان مرارا؟.
ليس باستطاعة أحد أن ينكر أن هناك "محور مصرى إماراتى سعودى" فى طور التكوين، ولا يتحدث الكاتب هنا عن محور المقاطعة لـ"قطر"، ولكن عن خلق محور اقتصادى / سياسى / عسكرى بين الدول الثلاث وهو ما لا يصب فى مصلحة السلطة الحاكمة الحالية فى تركيا بأى حال، وهى التى قامت بتسويق نفسها على مدى 13 عاما كوريث شرعى أو أخت كبرى للمنطقة العربية؛ قادرة على خلق حالة سلام مع "الكيان الصهيونى" و مصب لتدفقات استثمارية عربية وبالعكس فتصبح تركيا هى رجل أوروبا والغرب فى المنطقة، وليست بديلا للكيان الصهيونى، وإنما شريك بوجه إسلامى قادر على استيعاب التنظيمات الدينية الإسلامية ومنعها من الوصول لأوروبا، وهو الأمر الذى فشلت فيه بل وأصبحت حاوية وداعمة لهذه التنظيمات بل وصارت جزءاً من الصراعات العسكرية فى المنطقة، وبالتالى فإن هذا المحور العربى الوليد يخلق تهديدا حقيقيا للمصالح التركية فى المنطقة بشكل عام ولمصالحها مع الكيان الصهيونى بشكل خاص، حيث قدمت الدول العربية مبادرتها للسلام الشامل فى المنطقة بما يتفق أيضا مع مصالح الغرب، ومن هذا المنطلق تصبح ارميا مصلحة أصيلة فى ضرب هذا المحور من خلال أحد أقطابه أو بالأحرى القطب الذى يحظى بقبول سياسى واقتصادى واسع لدى الغرب، وهو أيضا القطب الذى بدأ فى خلق منظومة إصلاح اجتماعى داخلى تجعله يحظى بقول أكثر اتساعا لدى الدوائر الأوروبية، وهنا نتحدث عن "الرياض".
هل تقف واشنطن موقف المتفرج من انفتاح الرياض على موسكو عسكريا وسياسيا؟! بالقطع لا، فإن العلاقات التى صارت أكثر دفئا بين موسكو والرياض إضافة إلى واردات السلاح الروسى وخاصة منظومة S400 للدفاع الصاروخى بجانب التعاون السياسى فى الملف السورى قد تدفع بالريبة إلى قلب "ترامب" غير الناضج سياسيا ظنا منه أن الرياض قد تغامر بعلاقتها مع واشنطن - وهو أمر مستبعد - أو أنه يستطيع استنزاف الموارد الاقتصادية السعودية بعيدا عن ملف مشتريات الأسلحة الامريكية فيظهر أكثر من 4 مرات ليقوم بابتزاز رخيص للأموال السعودية وبعبارات لا تحمل أى اقتراب من الدقة حول قدرة إيران على احتلال المنطقة خلال 12 دقيقة !! والأمر الأبعد عن الواقع السياسى والعسكرى العربى، لكن يأتى اختفاء خاشقجى تكأة لا بأس بها إن أحسن استغلالها ليبدأ كَرةً جديدة للهجوم أو للابتزاز بنغمة مغايرة لما تم ابتذاله.
هكذا يستطيع القارئ أن يستخلص بجلاء من المستفيد/ المستفيدون من وراء اختفاء خاشقجى وأن الرياض هى الخاسر الوحيد من جَرَّاء اختفائه.
لا تتوقفوا عن التفكير