«الدخان والمجتمع المصرى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر»، للدكتورة هيام صابر، أحدث الإصدارات فى سلسلة «تاريخ المصريين» التى تصدر عن الهيئة العامة للكتاب، وهو دراسة جادة، تتقصى عبر فصل تمهيدى وأربعة أبواب وخاتمة، علاقة المجتمع المصرى بالدخان، زراعة وصناعة واقتصادا وكذا علاقة الدخان بطبقات المجتمع المصرى وطبقة الصناع ورجال الأعمال، ودور الدولة فى تنظيم هذه العلاقة.
ومن خلال أبواب الكتاب الأربعة والفصل التمهيدى الذى يسبقها والخاتمة التى تلحقها، يمكننا تكوين صورة شاملة عن المجتمع المصرى فى تلك الحقبة وعن طبيعة العلاقات بين مختلف فئاته وبين الطبقة الحاكمة فيه والدولة العثمانية، التى تحكمت فى زراعة الدخان والتمبك ومنعت زراعته فى مصر، وأصدرت الفرمانات بعقوبات مشددة على زراعته فى مصر بعد ازدهار زراعته حتى تتحول البلاد إلى مجرد سوق للدخان التركى الذى كان ينافس الدخان اليونانى والأرمنى منافسة شديدة.
ويوضح الكتاب كيف كان الدخان يزرع فى مصر قبل عام 1880 دون قيد أو شرط، وكانت أشهر مناطق زراعته فى الوجه القبلى على شواطئ النيل، على الطمى الذى يخلفه الفيضان، أما التنباك فكان يزرع فى مناطق عدة مثل البحيرة والشرقية والدقهلية والغربية والقليوبية والمنوفية والجيزة وأسيوط وبنى سويف والمنيا وقنا، ثم وضعت الدولة العثمانية فى عام 1874 نظاما لتحجيم زراعته، إلا أن المصريين حاولوا التحايل على القرار رغم العقوبات.
وفى يونيو 1890 صدر فى عهد الخديو توفيق قرار بمنع زراعة الدخان والتمباك فى مصر وتغريم المخالفين 200 جنيه عن كل فدان وهو مبلغ باهظ ، بالإضافة إلى مصادرة وإتلاف المحصول، فيما رأى محللون أن هذا القرار سببه التوسع فى زراعة القطن لإمداد المصانع الإنجليزية بما تحتاجه من الممواد الخام.
وعلى الرغم من حرمان مصر من زراعة الدخان فإنها اشتهرت بصناعة السجائر، حيث ارتبطت تلك الصناعة بوجود طبقة من المستثمرين الأجانب، معظمهم من اليونانيين والأرمن، ومما شجع على زيادة الاستثمارات الأجنبية فى هذه الصناعة احتكار تركيا لصناعة الدخان، مما دفع العاملين فى هذه الصناعة إلى الهجرة إلى مصر والعمل بها، كما رحبت سلطات الاحتلال البريطانى بصناعة الدخان فى مصر لما تتمتع به من مواصفات جيدة ومنتجات مميزة.
وكان نستور جناكليز أول تاجر يونانى للدخان جاء إلى مصر، وبدأ صناعة السجائر فى القاهرة فى عام 1869 بالقاهرة وكانت شركته أهم شركات قطاع الدخان والسجائر وكانت أكثر الشركات الأرمنية تحقيقا للربح ماتوسيان وجامسراجان وكيفورك وإبيكيان وملكونيان، واتسم عدد كبير من تلك الشركات بالطابع العائلى.
ويوضح الكتاب، كيف كان لعمال السجائر السبق فى القيام بالحركات الاجتماعية والتى عرفت فيما بعد بإضرابات العمال، وكان أول إضراب لعمال الدخان يومى 25 و26 أغسطس عام 1889 وارتبط هذا الإضراب ببداية إدخال الآلات فى الإنتاج، لكنه لم يحظ بالتنظيم الذى يجعله مؤثرا وكانت الإضرابات الأولية عشوائية حتى عام 1899 العام الذى شهد أكبر إضراب فى تاريخ الطبقة العاملة المصرية بوجه عام وعمال الدخان بوجه خاص، وبرز دور العمال الأجانب فى هذا الإضراب لما تمتعوا به من حماية قنصلية للأجانب، كما يوضح الكتاب بالتفصيل كيف تنوعت أشكال وأدوات التدخين وتأثيره فى حياة المصريين، فلم يقتصر التدخين على الرجال فقط فى جميع الطبقات بل شمل النساء والأطفال، وعرفت النساء تدخين الشبك وكان الشبك الخاص بهن أرشق وأكثر زخرفة وتباينت الآراء حول تدخين النساء بين مؤيد ومعارض، ولكن تدخين النساء لم يكن ظاهرة، وانتشر التدخين بين طلاب المدارس بعد ظهور السجائر وسبب آثارا سلبية، وانتشرت فئة «السبرسية» وهم مجموعة من الأطفال الذين يجمعون أعقاب السجائر وشكلوا ظاهرة مثل أطفال الشوارع الآن، كما اختلفت أنواع الدخان التى تستهلكها كل طبقة، وكانت الطبقتان العليا والوسطى تستهلكان الدخان التركى والشامى، كما ترك التدخين آثارا عديدة على النواحى الاقتصادية والسلوكية والصحية وكانت قائمة مستلزمات البيوت اليومية لا تخلو من الدخان مثله مثل الخبز والخضراوات، وكان مدخن التبغ ينفق عليه أكثر ما ينفق على طعامه أو ملابسه، وتعددت السلوكيات السلبية نتيجة التدخين مثل الكسل وإهمال العمل وترسيخ الأوهام وتسببت السجائر فى ضرر عدد كبير من مدخنيها، حتى أصدرت الدولة مجموعة من القوانين لمنع التدخين لتحجيم الأضرار.
كتاب «الدخان والمجتمع المصرى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر»، للدكتورة هيام صابر، دراسة شديدة التميز والخصوصية وتعتبر إضافة للمكتبة العربية، بما تتضمنه من كشف لطبيعة المجتمع الصرى خلال القرن التاسع عشر.