لا تحتاج تبريرًا لأمور العقائد والعبادات، ولا حاجة لك فى التماسِ أسبابٍ أو التشفُّع بأسانيد، يكفى أن يكون الأمر نصًّا أو تكليفًا واضحًا حتى يلتزم به الناس، أما البحث عن مزايا وإغراءات فيَلِيق بمندوبى المَبيعات ومُروّجى البضائع الكاسدة، وليس بالأديان وحَمَلة الرسائل العلويّة.
من المؤسف، ونحن فى القرن الحادى والعشرين، أن نضطر للعودة عقودًا، وربما قُرونًا إلى الوراء، لنؤكَّد ما كان يبدو بديهيًّا فى مراحل زمنيّة بعيدة وبدائية، مُحاولين استعادة العقائد من قبضة التلفيق والادّعاء، وإخراجها من دائرة الربط المُتعسِّف بكل الحلقات والتفاصيل الاجتماعية والمعيشية، إلى حيِّزها الأصلى فى وجهه الصافى، باعتبارها منظومة روحيّة ونفسية للضبط القيمى والأخلاقى، تتعاطى مع السياقات المُحيطة وتتقاطع معها، بقدر ارتباط تلك السياقات بالروح لا المادة، أى أن العقائد دروس أوليّة فى النفس والوعى والمسالك الروحية، وليست دروسًا فى الكيمياء أو الفيزياء أو علوم الذرة والأحياء.
قبل سنة انقلبت الدنيا، واشتعلت المعارك، عندما قال الكاتب الصحفى إبراهيم عيسى فى أحد البرامج التليفزيونية، إنه بحث طويلاً ولم يجد فائدة صحيّة أو عضوية للصيام، وتوصَّل إلى أن علّته الوحيدة فكرة التكليف، أو أنه «أمرٌ سيادىّ من الله» بحسب تعبيره، وهو ما ردّ عليه شيوخ وخُطباء ومواطنون عاديون بحدّة وتَقريع، مُعتبرين القول تجديفًا عقائديًّا وخروجًا على ثوابت الدين، رغم أنه لا ثابت واضحًا فى مسألة فوائد الصيام الصحية، وما استقرّ فى هذا الباب صنعه الفقهاء بربطٍ غير عادل، أو غير دقيق، بين الروح والمادة، والبحث عن تفسيرات مادية لفكرة الصيام الروحية بالأساس، فأسَّسوا خطابهم على وهم المنفعة، وعلى إعجازيّة التكليف والتشريع.
منذ طلع علينا الدكتور زغلول النجار قبل سنوات بأُطروحاته الاعتباطيّة الرابطة بين النصوص الدينية والحقائق العلميّة، بشكل مُتعسِّفٍ ومُجافٍ للعقل والمنطق، بات من البديهى لدى قطاعات واسعة من مُستقبلى الخطابات الدينية على تنوُّعها، الاعتقاد بأنهم بصدد دروسٍ مُكثَّفةٍ فى العلوم، أو أنهم يجلسون فى حلبة مُصارعة مع العلماء فى معاملهم ومختبراتهم، وليسوا أمام شيوخ وخُطباء ورجال دين، والحقيقة أن ظلاًّ قديمًا للأمر تجلَّى فى دروس وخواطر الشيخ الشعراوى، بما فيها من تجرُّؤ غَشومٍ ومجّانى على العلم ونظرياته، ولكن المحنة تعمَّقت واستفحلت مع «النجار» ومن تبعوه فى خُدعته بغير إحسانٍ أو عقل.
من هذا الباب الجائر فى الربط، نشأ وتنامى وازدهر خطابٌ دينىّ بالغ السطحية والتبسيط فى التعاطى مع أمور العبادات، لعلَّ أبرز أمثلته إصرار الفقهاء على أن إعجازًا طبيًّا وصحيًّا يتمثَّل واضحًا وجليًّا في فكرة الصيام، واستهلاكهم لهذا الخطاب بشكلٍ موسمىٍّ مُنتظم، وبقدر من التجاسر والافتئات على أهل التخصُّص المُباشرين، وعلى الثابت من حقائق العلم حتى الآن، وهو من قبيل الأمور البديهية غير المُرتقب تَبدُّلها، كما شاع فى أوساط العاملين فى حقل الخطاب الدينى، ردًّا منهم على اصطدام اختلاقاتهم غير المؤسَّسة على حقائق تجريبيّة مُستقرَّة، بادّعاء أن ثوابت العلم الحديث ليست نهائية، وهو ادّعاءٌ - فضلاً عن كونه صادرًا عن غير ذى وعى بالطبيعة التجريبية للعلوم الحديثة - يُمثّل نقدًا مُباشرًا للخطاب المعنوىّ الغيبى الذى يستندون إليه، فى ضوء أن ما يتوقَّف عنده العلم الآن أثبتته المعامل والمُختبرات، بينما ما يقفون هم عنده لم يثبُت إلا بعمل القلب والتسليم الاعتقادى الغيبى.
بعيدًا عن تلك الجدليَّات، التى تبدو فى جانب عريضٍ منها إهدارًا للطاقة، فى ضوء تشابك خطابات من حقول وأرضيّات مُختلفة، إذ يستند العلم للحقيقة والتجريب، ويستند الدين لليقين والتسليم الذاتيَّين، فإن الفيصل الذى لا يبدو أن له بديلاً عمليًّا مُقنعًا، هو ردّ الأمور إلى أصولها، ومعايرتها بمقاييسها وأوزانها، وكما لا يصحّ أن تستفتى طبيبًا فى كيفية الاغتسال أو الصلاة، فلا يُقبَل أن تستشير شيخًا فى خطّة علاجية.. وفى مسألة فوائد الصيام البدنيّة يُرَدُّ الأمر للطبّ لا الفقه، وللأطبَّاء لا شيوخ المنابر وحلقات المساجد وصيادلة الخطاب الدينى.