يُصرّ الفقهاء على أن الصيام مُعجزة صحيّة، ويرى الطب أنه ممارسة تتطلَّب قدرًا من التركيز والمتابعة، لانطوائها على تأثيرات عضوية يُمكن أن تتطوَّر إلى مخاطر حقيقيّة، وبينهما يتوجَّب علينا النظر إلى الطقس فى سياقه الروحى التعبُّدى، وموازنة الشعيرة الإلهيَّة بالضابط الصحىّ ومُحدِّدات العلم والمعرفة، دون أن يفتئت وكلاء السماء على قانونها القاطع «فاسألوا أهل الذكر...».
محنة رجال الدين الكبرى أنهم لا يقتنعون بالمركزية الروحيّة للعقيدة ونصوصها، ويستهدفون مدّ مظلَّتها لتُغطِّى أمور الاجتماع والاقتصاد والسياسة والأدب والفنون، حتى الطبّ والعلوم الحديثة، وهم فى هذه الغاية لا يشتغلون على التطوير الجاد والحقيقىّ، لاستيعاب قفزات الواقع وإسهامات تلك المجالات العصرية، وإنما يعمدون للصيغة الأسهل، عبر تقديم تفسيرات اعتباطية للنصوص، تربط مُنجزات الفقه والتشريع المُرتبطة بالقرون الأولى منذ البعثة حتى القرن الثامن الهجرى (آخر الإسهامات الحديثة والمضافة من الفقهاء)، ويحاولون تضييق مجال النصوص العلمية، ومُصادرة انفتاحها ورؤاها واكتشافاتها، لتقتصر على ما يُوافق النصوص الدينية، وفق تصوُّرهم الشخصى لا حقيقة النصوص نفسها.
ما يحتاج الفقهاء للنظر إليه بعمق، أن أمور العقائد تتَّصل باليقين والتسليم من بوابة القلب، ولا حاجة لها إلى تبريرات منطقيَّة ومسالك عقليّة وفق قواعد المكسب والخسارة والعوائد، وهذا ينطبق على العبادات، فالمؤمن بعقيدةٍ يلتزم بضوابطها وتكليفاتها وعباداتها، لأن هذا الالتزام مُكوِّن أساسىّ ضمن بنيتها الروحية والقيميّة، وليس لأنه يحصل بالضرورة على فائدة مباشرة، فأنت تُصلِّى لأنك مأمورٌ بالصلاة، وليس لأنّ أداء هذا الطقس التعبُّدى سيبنى عضلات جسمك ويمنحك قوامًا ممشوقًأ وعضلاتٍ مفتولة، وتصوم لأنك مُلتزم عقديًّا وروحيًّا بتلك العبادة، وليس لأنك بصدد كورس علاج مُكثَّف فى مستشفى مجانى، والأمر نفسه ينطبق على كل التفاصيل والعبادات الأخرى، ولا ينتقص من العبادات أن تحمل قدرًا من المخاطر الاحتمالية، فلو كُنت بصدد أداء مناسك الحج فمن المحتمل أن تسقط طائرتك أو تغرق سفينتك، أو حتى تنال منك ضربة شمس، ولن تعود من الرحلة بمكاسب ماديّة مُباشرة، ستعود بمكاسب روحيّة عظيمة، وهذا مفتاح أهمية العبادة وعوائدها المبتغاة، ولكل عقيدة اختبارات عديدة لأتباعها، بعضها قاسٍ بالمناسبة ويصل إلى الأذى البدنى المباشر، كما فى عقائد ومذاهب سماوية ووضعية على السواء، وهذا مدخل مُهمّ من مداخل الأديان والمُعتقدات لاكتشاف صدق الإيمان بها، واختبار مؤمنيها وتربيتهم وترقيتهم روحيًّا، وأى خروج بتلك الطقوس والعبادات عن حيِّزها الإيمانى والروحى ربما يكون خَصمًا مُباشرًا منها، لا إضافة لها.
إذا كان الصيام طقسًا تعبُّديًّا قاسيًا، وهذا لا يعيبه، وأثبته الله فى كتابه الكريم «فمن كان منكم مريضًا أو على سفرٍ فعدّة من أيامٍ أُخَر»، مؤكِّدًا مشقَّة العبادة وأنها ليست نُزهة، ولا تنسجم متاعبها مع المرض والسفر بظروفهما الضاغطة، فمن التجنِّى والافتئات على الله أن نحاول تصوير الأمر باعتباره مُقايضةً فى سوق، ستصوم مقابل الشفاء والصحة، وتُصلِّى مقابل اللياقة وليونة المفاصل، وغير ذلك من صيغ المُقايضة التى تُحوّل العبادة إلى سلعة، والفريضة إلى صيدلية لا يصعب عليها داءٌ ولا ينقصها دواء، لأن هذا الأمر ينطوى على تبسيطٍ خاصمٍ من جلال الفعل وروحانيَّته، كما يُصادر إرادة الله فى اختبار عباده بالمشقَّة التى يستجيبون لها، وهم عارفون بها وراغبون فيها، وفضلاً عن هذا وذاك فإنه يؤكِّد امتداد محنة الخطاب الدينى، وحاجته القوية والعميقة لإعادة الإنتاج فى وجه عصرىٍّ عاقلٍ، مُنفتحٍ على العالم وقادرٍ على احتواء تغيُّراته، والأهم حاجة رجال الدين من مُستهلكى هذا الخطاب للتواضع قليلاً أمام العقل، والاقتناع بأنَّهم مُيسَّرون للدّين ونصوصه، ولم يحوزوا مُطلق العلم والمعرفة!