إلى الذين يظنون أنهم قادرون الآن على كسر شوكة "خير أجناد الأرض" على صخرة مواقع التواصل الاجتماعى بفعل الشائعات والمؤامرات الداخلية الخارجية، نقول لهم: لقد دخل الجيش المصرى على مدار تاريخه القديم والحديث 955 معركة انتصر فى 943 منها، ومن هنا توقفت العديد من التحليلات عند وصف الجيش المصرى بأنه الضامن للديمقراطية والاستقرار، وأنه قادر على قيادة البلاد نحو الديمقراطية، ويمكن فهم هذا التحليل فى ضوء ما تحظى به المؤسسة العسكرية من مصداقية كبيرة لدى الرأى العام المصرى، مقارنة بالمؤسسات المدنية الأخرى.
وجدير بالذكر أن لكل أمة من الأمم تاريخها الحربى الذى يرصد أحوال جيوشها وتطورها والوقائع التى خاضتها والقادة الذين أبلوا فيها، وما إلى ذلك من شئون تتصل بالحياة العسكرية التى تلخص بالضرورة دروسا قومية يمكن أن يتلقاها الخلف عن السلف،
إن جيشنا الوطنى منذ تكوينه الأول وحتى اليوم، قام بأروع الواجبات - طبقا لوثيقة منذ ستة آلاف سنة - وهذه المدة على وجه التقريب هى أيضا تمثل تاريخ الجيش المصرى.
وعلى الرغم من ذلك، يقول الدكتور عبد الرحمن زكى، فى كتابه "الجيش فى مصر القديمة": ليس ثمة من يجهل الجندى المصرى الذى نسج لوادى النيل تاريخا من أزهى وأعرق تواريخ الأمم على الإطلاق، وخلف تراثا سيظل معينا للفخر على مر الأيام، بعد أن حارب المصرى فى آسيا وأفريقية وأوروبا، فوطئت قدماه أرضها، وامتطى ظهر مياهها، وامتزجت دماؤه بترابها، وخلد ذكرى قلما يدانيها جندى مثله، بينما الأمم كلها كانت تتيه فى بيداء الجهالة.
كثيرون من إخواننا العرب يعرفون أن الجيش المصرى على مدار تاريخه - منذ توحيد القطرين على يد "الملك مينا - 3200 ق.م" - نذر نفسه للدفاع عن الحق والعدل والتراب المصرى، ويدركون أيضا أن الجيش المصرى نفسه على مدار تاريخه جزء لا يتجزأ من شعب مصر العظيم، وأن من أسباب قوة هذا الجيش أنه لم يعتمد يوماً على المرتزقة الأجانب، وإنما اعتمد على المصريين أبناء الأرض الطيبة.
لأنه باختصار جيش الشعب ومن الشعب وإلى الشعب، فالقوات المسلحة التى قادها "أحمس" لطرد الهكسوس بعد احتلالهم لمصر عام (1789 ق.م)، كان جلها من المصريين والجيش الذى قاده "تحتمس الثالث" لتأييد حدود مصر كان من المصريين، والجيش الذى قاده "رمسيس الثانى" وهزم به الحيثيين فى معركة "قادش" كان فقط من المصريين، وهى المعركة التى فتحت الطريق لتوقيع أول معاهدة سلام فى التاريخ المدون عام 1270 ق.م. بين المصريين والحيثيين.
ومن نوافل القول أن الجيش المصرى هو أول مؤسسة عسكرية نظامية تم انشائها فى تاريخ العالم، فقد عمل الملوك الأوائل للدولة الحديثة على تكوين وتطوير الجيش المصرى بشكل كبير ليكون الدرع الواقى والحامى لمصر فى مواجهة أى غزو أو تهديد خارجى، كذلك فقد ظهرت لدى الجندى المصرى القديم أسس العقيدة القتالية التى اعتنقتها العسكرية المصرية خلال تلك الحقبة والتى نتجت عن الأثر النفسى الذى تركته تجربة مصر المريرة مع الغزاة الهكسوس، الأمر الذى أدى فى النهاية إلى ظهور وتأسيس أول مؤسسة عسكرية فى تاريخ العالم تتمتع بأعظم قدر من القوة الاستراتيجية.
وفى ظل تلك الحقب التاريخية شهدت النظم العسكرية المصرية تطورا مذهلا فى كل أفرع القوات المسلحة المصرية خصوصا مع مطلع عصر الدولة الحديثة، وقسم الجيش المصرى إلى فرق من المشاة والمركبات الحربية والقوات البحرية، بل شمل التطور كذلك نظم التسليح المختلفة داخل الجيش المصرى، ولقد تحقق التفوق فى آلة الحرب المصرية، والتفوق الهائل للجيش المصرى، منذ النصف الثانى من القرن السادس عشر قبل الميلاد، واستمر بلا انقطاع لمدة تصل إلى نحو مائتى سنة متصلة.
وإذا قمنا بمقارنة المستوى الحربى للجيش المصرى فى عصر الدولة الحديثة بمستوييه الآخرين فى عصرى الدولة القديمة والوسطى للمسنا على الفور مدى التفوق الذى بلغه الجيش المصرى خلال عصر الدولة الحديثة، حيث كان أكبر قوة عسكرية ضاربة فى التاريخ القديم، واستطاع تكوين إمبراطورية مصر الكبرى خلال تلك الحقبة، بعد أن فرض قوة ونفوذ وهيبة مصر السياسية والحربية الواسعة، لتشمل تلك الإمبراطورية سوريا وفلسطين شمالا وبلاد النوبة حتى الجندل الرابع جنوبا بفضل انتصارات الجيش المصرى.
كان هذا الجيش هو الحصن الحصين والدرع الواقى لمصر القديمة ولحضارتها الشامخة فى مواجهة كل من تسول له نفسه الاعتداء على حدودها المقدسة، والحامى لأمن مصر من أى تهديد قد يواجهها، وهو نفس الدور الذى يلعبه الآن.
بل كان هذا الجيش فى الكثير من الأحيان هو الدرع الحصين لحضارة الشرق الأدنى القديم بأكمله من الغزوات البربرية والهمجية المدمرة التى كانت تهدد حضارات تلك المنطقة، والتى كانـت تقـوم بها شعـوب متخلفة حضاريا بغرض الاستيطان والنهب والسلب، على غرار قوى الشر الحالية.
وكانت العقيدة القتالية لهذا الجيش منذ فجر التاريخ حتى اليوم تقوم على حماية حدود مصر المقدسة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا من أى اعتداء أو غزو يهدد حدود مصر الآمنة من قبل أعداء مصر التقليديين، من أجل الحفاظ على السلام الذى فرضه المصرى القديم بقوته وبأسه على جيرانه الطامعين، ومن أجل تحقيق الاستقرار والسلام فى منطقة الشرق الأدنى القديم.
ومما لا شك فيه أن تلك العقيدة القتالية قد ظل أمرها متوارثا جيلا بعد جيل فى ميراث العسكرية المصرية عبر القرون، منذ حرب التحرير ضد الهكسوس وحتى حرب رمضان 1973، فالجندى المصرى الذى عبر قناة السويس فى السادس من أكتوبر من العام 1973م والذى أسقط أقوى حصن عسكرى فى التاريخ وهو خط بارليف ، كان يحمل نفس ما حمله الأجداد من الإيمان والعقيدة القتالية المتمثلة فى الدفاع عن حدود الوطن المقدسة والقتال تحت راية العقيدة الدينية.
فلم يكن غريبا أن يتردد هتاف: "الله أكبر" فى ميدان القتال كالزلزال فى وجه العدو من قبل جنود مصر، كما فعلوا من قبل فى قتالهم للتتار والصليبيين منذ قرون مضت .. وقد صدق النبى صلى الله عليه وسلم فى وصفه لجند مصر البواسل بأنهم خير أجناد الأرض، وذلك قبل أن يدخل الإسلام الحنيف أرض مصر المباركة، وتصير حصنه الحصين وقلعته المنيعة منذ أن شرفها الله به.
لقد اكتسب الجيش المصرى على مدار تاريخه قدرات هائلة على الصمود والنهوض مجدداً بعد كل كبوة، ولا أدل على ذلك مما حدث فى 5 يونيو 1967م وهزيمته فى معركة لم تتح له فيها فرصة القتال الحقيقى.. ومكن الميراث التاريخى جيش مصر من الصمود، وظهر معدن المقاتل المصرى بعد أيام قليلة من النكسة، كما ظهر فى ملحمة "رأس العش" وتدمير المدمرة الإسرائيلية "إيلات" قبالة سواحل بور سعيد باستخدام لنشات الصواريخ لأول مرة فى التاريخ العسكرى البحرى يوم 21 أكتوبر 1967وملحمة بناء "حائط الصواريخ" بأيدى المصريين مدنيين وعسكريين عمال ومهندسين وفنيين وفلاحين.
إذن حقائق التاريخ القديم والحديث ووقائع ومعطيات الحاضر تؤكدا صدق من لا ينطق عن الهوى "سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم" الذى شهد لجند مصر - قبل أربعة عشر قرناً من الزمان - بأنهم خير أجناد الأرض وأنهم فى رباط إلى يوم الدين، وما أن يشكك البعض فى ذلك حتى تأتى الوقائع المتساندة لتؤكد تحقيقها ومصداقيتها، ومن ثم جاء موقف الجيش المصرى العظيم المساند والمؤيد والحامى لانتفاضة الشعب المصرى العظيم فى ثورة 30 يونيو 2013، ليثير دهشة البعض ممن لا يعرفون طبيعة هذا الشعب وخصائصه وهنا أقول بكل الثقة أن الجيش المصرى كان ومازال وسيظل العمود الفقرى فى الحياة المصرى، نحن فى العادة نسمع كثيرا عن إنجازات القوات المسلحة فى الاكتفاء الذاتى النسبى من احتياجاتها المعيشية.
لكننا فى الوقت ذاته لا ندرك حقيقة البطولات العسكرية الخلاقة والمبدعة فى القطاع الخدمى فى الحياة المدنية، والذى أصبح عنوانا بارزا للقدرة والكفاءة، وهو لا يحظى إلا بالقدر الشحيح من الترويج الإعلامى عبر قليل من الأفلام التسجيلية والنشرات المطبوعة، والبرامج الدعائية القاصرة، التى لا تعبر بالقدر الكافى عن روعة الإنجاز من جانب القوات المسلحة المصرية فى وقت السلم تماما كما هو دورها المعروف فى وقت الحرب.
.. إنها أذن أسطورة جيش ينتمى إلى تراب هذا الوطن ويكفل له الحماية فى وقت الحرب والسلم على حد سواء.