لا أعرف هل أعذر الحكومة أم ألومها على فشلها الإعلامى الكبير فى إدارة أزمتين تعرضت لهما البلاد فى الأسبوعين الأخيرين، ريجينى والجزيرتين، أعذرها لأنها ورثت غابة من الفوضى الإعلامية، لا يحكمها قانون ولا مواثيق شرف، وتأخر حتى الآن إصدار قانون الإعلام، والتشكيلات التى نص عليها الدستور.. مولد وصاحبه غايب والحقائق تائهة وضائعة، والرأى العام رهينة للتوك شو، لكن ألوم الحكومة لأنها ضعيفة ومترددة، وتعيش فى عصر إعلام الاتحاد الاشتراكى، وتخاف من الصحفيين والإعلاميين والمذيعين، وتكتفى بالصمت أو سياسة رد الفعل، وليس الإفصاح والشفافية والمواجهة.
فى موضوع الجزيرتين، استدعت الفضائيات قوات التحاليل المحمولة جوا، «اللى له فى الموضوع واللى ملوش»، ورغم أنها قضية فنية تتعلق بوثائق تاريخية وقوانين بحرية لترسيم الحدود، إلا أن التحليلات قامت بتسييس الاتفاق المصرى السعودى، وانقسم الرأى فريقين أحدهما يُقسم أنهما سعوديتان، والآخر يحلف أنهما مصريتان، والأغرب أن الإخوان أعداء عبدالناصر استشهدوا بعبدالناصر، والثوريين كارهى مبارك ترحموا على أيامه، غير الخطاب الحماسى العاطفى عن دماء الشهداء على أرض سيناء، وتاهت الحقيقة وجلس الناس أمام الشاشات، كل يبنى موقفه فى حدود ما يسمع ويشاهد.
غاب التمهيد المعلوماتى الذين يشبه تمهيد النيران فى المعارك الحربية، لتهيئة مسرح العمليات وحماية الرأى العام من الشطط والمعلومات الغائبة، وملأ هذا الفراغ تحليلات وسّعت هوة الخلاف، وتركت ثغرة ينفذ منها نافثو السموم، ليس فقط للانقضاض على مشروع الجسر، ولكن أيضا لإفساد نتائج الزيارة وضخامة المشروعات ودفء العلاقات، ولم تأخذ الاستثمارات المقبلة حقها من النقاش، تماما بنفس أسلوب السجادة الحمراء، وتاهت الرسالة المهمة للزيارة فى الزمام، وهى أن السعودية تقول للعالم إن مصر آمنة ومستقرة، ومهيأة لعودة الاستثمارات العربية والأجنبية على نطاق واسع.
لست خبيرا ولا عالما ببواطن الأمور، وأتمنى أن يكون مجلس النواب على قدر المسؤولية، من خلال مناقشات عميقة، وأن يستعين بالخبراء المعنيين بالقضية، وليست لهم أهواء سياسية ولا ميول خطابية، وألا يرتدى بعض النواب عباءات محللى الفضائيات، وأن يكونوا مثل هيئات المحكمين فى المحاكم الأمريكية، يستمعون ويناقشون ويبحثون حتى تستقر عقيدتهم، ويصلوا إلى قرار سديد يحسم الجدل، ويصل إلى بر الأمان.
لا أتصور أن رجالا ارتدوا البزة العسكرية يمكن أن يفرطوا فى شبر من أرض الوطن، ولا يجب إدخال القضية مزاد اللعب على المشاعر وتهييج الرأى العام، ولا تسمح السلطات لدعاوى التظاهر والخروج إلى الميادين، فقد تنفسنا الصعداء بعودة الهدوء واستقرار الأمن، ومن حق من يريد الاختلاف أن يعبر عن رأيه، فالديمقراطية لا تحيا إلا بالرأى والرأى الآخر.. ولا يحب أن نكرر الأخطاء التى ارتكبها البعض بسوء نية فى قضية ريجينى، حين زودوا وسائل الإعلام الإيطالية بشائعات فاسدة، تم توظيفها فى غير صالح مصر، وأسهمت فى زيادة تعقيد الأزمة.
كل سلاح له حدين، والحد النافع للإعلام المصرى أن قنواته الخاصة لها السيادة فى الفضاء العربى، وتضع الشأن المصرى فى بؤرة اهتمام المواطن العربى، فانصرف المشاهدون عن الجزيرة وفقدت نسب المشاهدة وهذا شىء إيجابى، أما الحد الضار للإعلام فهو تسويد الصورة ومزادات الشحن والإثارة، وعدم تحديد مفهوم القضايا الوطنية التى يجب الالتزام بثوابها وعدم المساس بها، وهى ليست من أجل رئيس ولا نظام، ولكن للحفاظ على الدولة وتدعيم أركانها، والركن الأساسى هو الشعب الذى يحلم بحياة كريمة ومستقبل مفعم بالأمل.