دعوة مريبة لمحافظ بورسعيد بإعادة تمثال ديلسبس ويتجاهل كل ما يؤكد أن تمثال الرجل الفرنسى من أصل إيطالى لا يستحق أن يوضع عند مدخل قناة السويس
الأمم اعتادت أن تنصب تماثيل لمن يجسدون جزءاً مشرقاً من تاريخها الوطنى أو لمن أسهموا بجهودهم أو نضالهم أو دمائهم أو حتى بمبادئهم وقيمهم وإنجازاتهم لخدمة بلدهم وأمر التماثيل «العمومية» هو من صلب المقتضيات الوطنية وذات صلة عميقة بالتاريخ الوطنى والقيم التى تريد الأمم أن ترسخها فى الأجيال المتعاقبة
حجر ألقاه محافظ بورسعيد اللواء الغضبان، فى بركة ماء آسن حافل بالريب عندما قال أمام صديق من الصحفيين، إنه سيعيد تمثال ديلسبس لقاعدته لأن تلك هى رغبة كل أهل بورسعيد.
وكأننا أمام استفتاء قد تم فى مدينتى الباسلة أو أن الأمر محض «قرار إدارى» لمجلس قروى، رأى أن ينصب تمثالًا لعمدة كفر البلاص على أول داير الناحية.
ورغم أن العبد لله قد مل كليًا من الكتابة فى هذا الموضوع الذى بات يطرح بشكل موسمى وفى حملات إعلامية متتابعة، منذ إعادة افتتاح قناة السويس بعد حرب أكتوبر إلا أن خطر التصريح والأمر الجلل الذى جاء به، يستحق أن نعاود الكرة ونسهم مجددًا فى حوار الطرشان الذى استهلكنا زهاء أربعة عقود.
نعم هو حوار طرشان بامتياز
كتب كثير من علماء وساسة وصحفيين وأدباء عن مدى جدارة شخص ديلسبس بأن يعاد نصب تمثاله على القاعدة التى شيدت بعيد وفاته، ولكن أحدًا من الذين يرون أنه جدير بذلك لم يرد على أى معلومة بل يتم التجاهل كسياسة ثابتة، مع المضى قدمًا فى طرح مبررات أخرى وكأنهم لا يسمعون أو يقرأون.
حجج من رأى أن تمثال الرجل الفرنسى من أصل إيطالى لا يستحق أن يوضع عند مدخل قناة السويس أجملها فيما يلى:
1 – التمثال وضعته شركة قناة السويس بعد وفاة ديلسبس فى محاولة منها «لغسل سمعته» وسمعة الشركة، بعدما حكمت عليه المحاكم الفرنسية بالسجن ومعه ابنه لمدة خمس سنوات بتهمة النصب مع إعفائه من تنفيذ العقوبة لكبر سنه.
هل يستطيع أحد أن ينكر أنه نصاب ومجرم مدان؟ هنا سيصم الكل آذانهم ويستغشون ثيابهم وكأنهم خشب مسندة.
2 – أن ديلسبس ليس مهندس قناة السويس، وليس هو صاحب فكرة شق القناة ولا هو الذى أعد مخططاتها الهندسية وكل هؤلاء معروفون بالاسم ولا ينتطح فى ذلك كبشان.
3 – ديلسبس هو صاحب عقد امتياز حفر قناة السويس، أى بتعبيرنا الحديث « المقاول» الذى تولى العمل فلا ينسب له أحد فضلًا ليس له من قبيل القول بأنه صاحب الفكرة أو مهندس المشروع.
4 – أن مقاول القناة تعمد عبر سنوات عمله إلحاق الضرر بمصلحة الدولة المصرية سواء بفروض شروط مجحفة لمصر فى عقد القناة ومن بينها استخدام السخرة فى أعمال الحفر.
سيصمت هؤلاء المؤيدون لعودة تمثاله أمام تلك الحقيقة التى أثبتتها رسالة ماجستير رفيعة المستوى عن «السخرة فى حفر قناة السويس»، مثلما لن يأبهوا لموت الآلاف من العمال المصريين أثناء عملية الحفر. ولكن الكتاب موجود لمن يريد أن يقرأ.
ولست بحاجة للإطناب فى بيان أن مصر سلبت أرباحها الموعودة من القناة وألجأها تحكيم ملك فرنسا لبيع أسهمها ويد ديلسبس فى ذلك ظاهرة، إلا إن كان هناك من يرى أن لا حق لمصر فى أرباح قناة تجرى فى أرضها وشقت بأيدى أبنائها وأن «القانون لا يحمى المغفلين».
وزاد فى الطنبور نغمة أن ديلسبس خدع أحمد عرابى «وزير الحربية»، فبعد أن وعده بأن القناة مجرى مائى محايد ولن يسمح لقوات الغزو الإنجليزى باستخدامها للهجوم على مصر وقام عرابى بتحصين الإسكندرية التى يقف أسطول ولسن أمامها، ولكن دلسبس سمح للأسطول والقوات المعتدية باستخدام القناة، واضطر عرابى لنقل قواته على عجل ليلقى الهزيمة فى أبو حماد والتل الكبير وتصبح مصر مستعمرة بريطانية.
هل يجرؤ الذين يدافعون عن ديلسبس بالرد على ذلك؟ لن يردوا حتى لو كانوا يرون فى الاستعمار نعمة وحقًا.
5 – قد لا يعلم كثير أن مثالا فرنسيا اقترح على الشركة وضع تمثال صممه خصيصا على مدخل القناة لفلاحة مصرية، تحمل مشعل الحضارة فى إشارة لدور مصر عبر التاريخ ولكن ديلسبس وشركة قناة السويس، رفضت نظرًا لارتفاع التكلفة المالية فقام المثال بتعديل نموذجه الذى نصب فى نيويورك باسم تمثال الحرية.
لكن الشركة التى تحججت بنقص المال لم تر أى بأس فى وضع تمثال لديلسبس على البر المصرى لأنه لشخص الرجل وليس لرمز مصرى.
هذا عن الحجج التى يتم تجاهلها فى حوار الطرشان
لكن الحجج والمسوغات التى يسوقها فريق ديلسبس مردود عليها حجة وراء الأخرى.
الحجة الأولى: أن ذلك هو التاريخ ولا ينبغى سوى احترامه. وذلك باعتبار أن كل ما قيل عن ديلسبس ليس من التاريخ فى شىء، وأن التاريخ لم يعلم أن المقاومة الشعبية أثناء عدوان 1956 «أى والله العظيم كان عدوانا» قررت إزالة التمثال الذى كان رمزًا استعماريًا بامتياز.
أو ليس من التاريخ أيضًَا أن الرجل نصاب أثيم؟ ذلك أيضًا جزء من التاريخ ولكننا ننتقى ما يوافق الهوى.
الحجة الثانية أن ديلسبس صاحب الفضل فى حفر القناة، وتلك فرية وكذبة لا تصمد أمام حقيقة أن أتباع سان سيمون هم أصحاب الفكرة وعرضوها أولًا على محمد على باشا ورفضها، خشية أن تؤدى لاستعمار مصر «وهو ما حدث» بل وأن ديلسبس سرق تصميمات هؤلاء، وذلك كله مسطور وبالأسماء والوقائع فى كتب التاريخ. ناهيك عن خيانته لمصر بمن فيهم الخديو وعرابى.
الحجة الثالثة هى أن نصب التمثال سيجعل منه ومن بورسعيد مزارًا سياحيًا وتلك ثالثة الأثافى لعمرك لأن بها تضليل لا يليق ببلد فيه معاهد علمية وكفاءات مهنية وشركات كلها معنية بالسياحة. أى تمثال ذلك الذى سيكون مزارًا سياحيًا؟ لا هو عمل فنى لواحد من مشاهير الفنانين، ولا هو بحجمه وطبيعته عمل فنى مرموق أبدًا ليس أكثر من تمثال شخصى مصبوب يماثل العشرات من أضرابه فى أرجاء الكرة الأرضية
هل سيكون التمثال قبلة ومزارًا سياحيًا للشعب الفرنسى؟ أى ضحك على الذقون هذا وأى كذبة ساذجة تلك؟
الحجة الرابعة وهى أن التمثال أثر تاريخى مسجل فى قائمة الآثار الإسلامية والقبطية فى وزارة الآثار، ولنا هنا وقفة.
فعندما أعلن مؤخرًا أن التمثال بعد ترميمه من عسكرى فرنسى بتوجيه فرنسى وليس باستدعاء وطنى قد أدخل فى قائمة الآثار المصرية، ليلحق بالقاعدة الحجرية التى تم تسجيلها قبل ذلك بعدة سنوات أعلنت اختلافى «فنيًا» باعتبارى من أهل التخصص مع قرار اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية.
اختلفت أولًا لأن التمثال ليس عملًا فنيًا أو معماريًا من إنشاء المصريين ولم يتم إنجازه، وفقًا لأية تقاليد فنية مصرية، ومن ثم يجرى عليه ليس اعتبارات التقادم «مائة عام» ولكن ما يجرى على التحف القديمة والأعمال الفنية الأجنبية المنشأ.
واختلفت ثانيًا لأن التمثال تمت عملية ترميمه بغير طلب أو إشراف من وزارة الآثار، حيث كانت الولاية عليه لهيئة قناة السويس وقت قيام جندى فرنسى بأداء خدمته العسكرية فى ترميم التمثال.
وعندما ثار الحديث عن إعادته بعد الترميم الفرنسى وقرار اللجنة الدائمة بضمه كتبت أن أمر الحفاظ على الآثار القائمة بأماكنها، لا ينطبق على تمثال ديلسبس فليس هو بالأثر المعمارى ولا هو بالبناء المصرى الذى يشمله قانون الآثار فضلًا عن أنه لم يكن قائمًا بالفعل عند تسجيله وإلى يومنا هذا بل وإلى أن يلج الجمل فى سم الخياط.
غاية ما يمكن الموافقة عليه أن يعرض كعمل فنى داخل متحف يؤرخ لحقبته ولتاريخ حفر قناة السويس، وأرى فى ذلك تسامحًا كبيرًا وقطعًا للنزاع مع زملاء أعتز بهم فى مجال الآثار.
الأمر يختلف بالطبع فيما يتعلق بمبانى هيئة قناة السويس بما فى ذلك مقار إقامة ديلسبس ذاته فتلك يعنيها قانون الآثار إن توفر فيها شرط تقادم المائة عام.
ولكن دعنا من ذلك كله ولنأتى لبيت القصيد، سيسىء لنفسه ويدمغ نفسه بالكذب الذى يحط من شأن مرتكبه، ويودى به لنار وقودها الناس «الكذابين» والحجارة من ينفى أن جهات فرنسية تدعو وتطلب وتأتى لبورسعيد والإسماعيلية راجية ومتوسلة وواعدة بأشياء متباينة أقلها وأكثرها سذاجة وعود بالتدفق السياحى على بورسعيد.
هل منكم يا سيادة اللواء من ينكر هذا؟
لن يجرؤ أحد أن ينكر لأن الوقائع معروفة ومسجلة بالصوت والصورة والأوراق.
سيقول قائل لكن هؤلاء «ناس طيبة أوى يابا جمعة»، وليست لهم أغراض استعمارية أو مآرب خاصة والرد على ذلك حاضر وعلى الفور فهم أى أولئك الذين يسمون أنفسهم جمعية أصدقاء ديلسبس وراءهم شركة، طاقة فرنسية شهيرة أسسها المنتفعون وحملة أسهم شركة قناة السويس التى تم تأميمها.
لم يذهب أحد من شعب بورسعيد إلى باب مكتبك يا سيادة المحافظ راجيًا إعادة تمثال ديلسبس وإنما فعل ذلك آخرون بسوء أو بحسن نية وذلك أمر آخر قد يودى بنا جميعًا للترافع أمام ساحات القضاء إن لزم الأمر.
ثم أن هذا التمثال الصغير حتى وإن كان ديلسبس برىء براءة الذئب من دم ابن يعقوب فى كل ما قلناه لا يليق بحجمه وفنياته أن يوضع على مدخل قناة السويس وتمر أمامه سفن أعلى منه قامة بات تمثالًا يليق بترعة لا تحود على المالح.
ناهيك عن أن الأمم اعتادت أن تنصب تماثيل لمن يجسدون جزءًا مشرقًا من تاريخهم الوطنى أو لمن أسهموا بجهودهم أو نضالهم أو دمائهم أو حتى بمبادئهم وقيمهم وإنجازاتهم لخدمة بلدهم وأمر التماثيل «العمومية» هو من صلب المقتضيات الوطنية وذات صلة عميقة بالتاريخ الوطنى والقيم التى تريد الأمم أن ترسخها فى الأجيال المتعاقبة.
يا ترى أى قيمة تلك التى يمثلها ديلسبس؟
قيمة خداع مصر وخيانتها؟
قيمة الإجرام والنصب؟
قيمة النهب الاستعمارى؟
اختاروا قيمة ما ولنرى.
كلماتى الأخيرة لن أوجهها لرئيس الجمهورية رغما أنه ينبغى علىَّ أن أفعل ولكن تلك ستكون ورقة أخيرة.
كلماتى للسيدة الدكتورة وزيرة الثقافة وهى ببساطة أن بورسعيد ليست قرية يديرها مجلس محلى، ليقرر ما يشاء بمنأى عن الحكومة والاعتبارات الوطنية الراسخة وإنما هى رمز من رموز التاريخ الوطنى، بل ومن الرموز العربية والأممية باعتبارها المكان الذى شهد النهاية المخزية للاستعمار القديم، ولا عجب أن نجد عدة مدن عربية وأوروبية ولاتينية بها شوارع تحمل اسم بورسعيد.
هل يليق بذلك الرمز التاريخى أن يضع تمثالًا يناقض وبكل الفجور معنى اسمها ومغزى تاريخها؟
هل يليق بمصر بتماثيلها ومسلاتها الفرعونية التى تزين ميادين العالم الكبرى أن تتقاعس عن تزويد مدخل قناة السويس الشمالى والجنوبى بتمثالين، يراهما كل من يعبر القناة عنوانًا ناصعًا على حضارتنا وأيضًا على روعة وإبداع الفنانين المصريين أحفاد محمود مختار؟
هذا شأن وطنى طال تجاهله وأتمنى بما عرف عنك من ثقافة ووطنية، أن يتم على الفور تشكيل لجنة لذلك ولتلك اللجنة أن تختار عملًا فنيًا عملاقًا ومهيبًا سواء من آثارنا القديمة أو من أعمال فنية شهيرة، ولا بأس من الدعوة لمسابقة عالمية لنحت تمثال يعبر عن الحقائق التاريخية ذات الصلة بتاريخ قناة السويس والإسهامات الإنسانية لحضارتنا.
ذلك أقطع للشقاق وللشبهات وأجدر بمصر وأهلها
قلنا كثيرًا ونقول إنه ثور ورغم ذلك هناك من يصر على حلبه.