هكذا أصبحنا أسرى لتجار البريق الزائف
قبل أى شىء، لابد هنا أن أؤكد لك أننى أكنّ كل احترام لمهنة «مندوب المبيعات»، لأنها أولًا وأخيرًا عمل شريف، لكننى فى الحقيقة لا أحترم أبدًا أن يتحول أسلوب مندوبى المبيعات فى إقناع العملاء بمنتجاتهم إلى أسلوب حياة، خاصة إذا كانت هذه المنتجات فاسدة من المنبع إلى المصب، ولا يتعدى تاريخ صلاحيتها فترة تجربتها أمام العميل، فيدفع الرجل ثمن بضاعة لاستخدام يوم واحد، فيضيع المال وصاحبه، وبدلًا من أن ينفق فى أمر حقيقى، يبدد فى الوهم، فيقع المواطن ضحية استنزاف مندوبى المبيعات، ويقع الوطن فى بئر التبديد. انظر فى أحوال نخبتنا، وحاول أن تقارن بينها وبين ما تراه إذا ما جلست على مقهى لتشرب مشروبًا، أو لتستأنس بصديق، يطل عليك ذلك الرجل بما معه من أشياء لم تخترها، ولم تفكر فى شرائها، ثم يبدأ فى الحديث- دون استئذان غالبًا- ليعرفك بنفسه باعتباره منتسبًا لشركة أجنبية، وما هى إلا لحظات حتى يحتل هذا الرجل مساحتك، ويفرض عليك موضوع حديثه، معددًا مزايا بضاعته، محاصرًا إياك لتشترى ما تيسر من الوهم. هم كذلك فى الفضائيات والصحف والأحزاب السياسية والمؤسسات الرسمية، أكثرهم لا يمتلكون مواهب حقيقية، أومهارات عملية، أو إمكانيات نادرة، لا يمتلكون سوى فن تقديم الذات، يلمعون أنفسهم قدر المستطاع، يحفظون كلمات يرددونها فى كل وقت وأى مناسبة، باعوا كلماتهم مرة فراجت بضاعتهم، فاستمرأوا الأمر مرة بعد مرة، فالإبداع لا يهمهم، والتجديد لا يعنيهم، ما يعنيهم هو المكسب فحسب، ومادام المكسب مضمونًا بالطريقة ذاتها، فلماذا يغيرون من مقدماتهم؟، ولماذا يجددون فى صيغهم المحفوظة؟، وهو ما يجعل مسألة كشفهم وانكشافهم أمرًا غاية فى السهولة لمن يعقل ويفهم.
تعبت البشرية كثيرًا من أفعال هؤلاء حتى صاروا محفورين فى قاموس التحذيرات، فقالت الحكمة العربية «ليس كل ما يلمع ذهبًا»، فى إشارة إلى فساد الحكم على الناس بناء على مظهرهم الخارجى فحسب، فالحقيقيون لا يعلنون عن أنفسهم، وأصحاب القيمة تغنيهم قيمتهم عن التدنى للغير، وكل من يمتلك قدرًا من الإبداع يجهد نفسه فى تنمية إبداعه بما فيه الكفاية حتى يصل إلى شاطئ الإنجاز، ولهذا لا يملك الوقت ولا الملكة التى تمكنه من بذل مجهود مضاعف من أجل الإعلان عن نفسه، فيظل منتظرًا أن ينتخبه المجتمع بشكل طبيعى للمكانة التى يستحقها، لكن للأسف حينما يأتى لهذه المرحلة يجد مكانه وقد شغله «مندوب مبيعات» لم يجتهد فى شىء بقدر اجتهاده فى تقديم نفسه للمكانه التى لا يستحقها.
انتهى العالم «الخارجى» من هذه الأزمة بعد عذاب مرير، بأن أرسى قواعد «دولة المؤسسات» التى تضع معايير واضحة لكل المنتسبين إلى مؤسسات الدولة، سواء كانت مؤسسات خاصة أو عامة، ومن خلال العمل والإنجاز والإبداع والابتكار يتم تقييم الأشخاص بشفافية ونزاهة، ومن ثم تصبح النخبة «نخبة» حقيقية، ويوضع كل فرد فى مكانه الصحيح، لكننا للأسف نتجاهل هذه التجارب البشرية المهمة، ونضع أنفسنا أسرى لبائعى الوهم وتجار البريق الزائف.