لم أكن يوما من محبى الفسيخ أو من المعجبين المنبهرين به، ربما تناولته عدة مرات فى حياتى لم ينتج عنها ذلك الإعجاب المفرط الذى يشعر به كثير من المصريين ولم يؤد إلى نفور مطلق أو كراهية عنيفة كتلك التى يبديها البعض الآخر.. عادى.. مجرد سمك مملح وممكن لو تمليحه قليل شوية يكون طعمه شبيها بـ"السيمون فيميه" الذى تعرفه المجتمعات والأوساط الراقية وتذوقته مرة أو مرتين فى مؤتمر طبى أو ما شابه، لكن مسألة الرائحة مختلفة تماما.. ربما كانت تلك الرائحة الرهيبة هى الحائل الرئيسى بينى وبين الفسيخ !
رائحة تجعلنى أحرص على الفرار من أى تجمع عائلى يتوسط مائدته هذا الضيف الثقيل، المهم.. دعيت منذ فترة لتجمع عائلى على شرف هذا الضيف ولأسباب معينة قررت الحضور هذه المرة معتذرا لأنفى الذى عليه تحمل هذه الرائحة لعدة ساعات ربما يهونها أنس التجمع ودفء الأسرة، لكن الحقيقة أن ما هون الأمر كان شيئا آخر..الإلف، التعود، التكيف، كلها كلمات تؤدى لنفس النتيجة أننى تحملت الأمر.
فى البداية طبعا زكمت أنفى تلك الرائحة المنتنة وضاق بها صدرى ثم رويدا رويدا بدأت أتعود، بعد دقائق صارت الرائحة محتملة ثم بعد قليل لم أعد ألحظها أصلا، هل هى فعلا سيئة أم ترانى كنت مخطئا؟! الحقيقة هى فعلا سيئة إنها رائحة منتنة لا فوارق كثيرة بينها وبين رائحة أى جسم منتن آخر أو أى جيفة حيوان تم تركها لتتحلل على جانب الطريق، غير أن هذا الأخير تُرك ليُنتن بغير قصد بينما تُرك الفسيخ بقصد، إذا فلماذا لم أعد ألحظها؟! لماذا لم أعد أنفر منها؟! كيف وصلت لأن أسأل نفسى أصلا عن مُسَلَّمة بديهية ككون رائحة الفسيخ سيئة أم ليست كذلك؟! بل كيف يصل الأمر أن تسارع إحدى القريبات العزيزات بإبداء إعجابها بهذه الرائحة لدرجة أن تتمنى وجود اختراع يعبئ تلك الرائحة فى زجاجات عطرية للاحتفاظ بها وربما التعطر بها ولنسميها "بارفان الفسيخ" ألهذه الدرجة؟! بارفان برائحة الفسيخ وربما بعد حين عطر الثوم وأسانس البصل وكولونيا بعبق التقلية ما المانع؟! كل هذا سيكون واردا مقبولا إذا تحقق الشرط التعود والإلف، ذلك الذى يغير المعايير الطبيعية للأشياء ويجعلها خاضعة لمعيار واحد، التكيف، حتى لو أدى هذا التكيف بعد حين لإفساد الذوق وفقدان الأحاسيس الطبيعية بل وتحولها للنقيض فيصير السيئ حسنا والبغيض محبوبا والمستقبح مستحسنا وأيضا قد يمسخ ذلك التعود الفطر المستقيمة فيُصَيِّر الحرام حلالا والمكروه مندوبا والمستنكر مستباحا مستمرئا.
عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: "إنكم لتعملون أعمالا هى أدق فى أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبى صلى الله عليه وسلم من الموبقات" هكذا بيَّن الصحابى الجليل تلك الحقيقة التى لا نلحظها مع طول الأمل واعتياد الأشياء، حقيقة تغير المعايير والتعريفات. لقد تغير حكم من عاصرهم سيدنا أنس وتحولت نظرتهم لبعض الأمور مع مرور الوقت وطول الأمد فصارت أشياء هينة بسيطة وصغرت فى أعينهم حتى صارت أدق من الشعر رغم أنها كانت يوما -قبل اعتيادها- من الموبقات وربما لو مد الله فى عمر سيدنا أنس أعواما لوجد من لم يعد يراها أدق من الشعر بل لم يعد يراها أصلا وماذا لو مكث قرونا بعد ذلك؟! أليس من الممكن أن يجد من اعتادوا تلك (الموبقات) حتى صارت هى الأصل وصار المستغربون المستهجنون هم من يتقونها أو حتى يأنفون منها ويضايقهم وقوعها.
أعتقد أن هذه الافتراضات لا يمكن استبعادها فنحن بالفعل نراها ونعيشها والتى تعد أهون صورها هى تلك التى تظهر فى تعامل الكثيرين مع تلك الرائحة المنتنة التى مهما تعود عليها البعض وألفوها وأحبوها أو حتى عبأوها فى زجاجات وتعطروا بها فستظل فى حقيقتها منتنة مقززة، وستظل المشكلة فى الأنوف التى قررت أن تتخلى عن حساسيتها وتتصالح مع ما يزكمها حتى لا تمانع يوما أن تتعطر بعطر مستخلص منها.. عطر الفسيخ.