لا يخفى على أحد عناية شريعتنا ورحمتها بسائر المخلوقات، ومنها الحيوان بكل أنواعه والطيور.. وغيرها، وأن تعذيب هذه الحيوانات أو إيذاءها محرم كإيذاء الإنسان، ونعلم جميعًا أن امرأة دخلت النار لحبسها قطة فلا هى تركتها تلتقط طعامها من الخلاء ولا هى أطعمتها، بل حبستها حتى ماتت جوعًا وعطشًا، فقال رسولنا الأكرم: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِى هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ»، ونعلم أيضًا أن رجلًا دخل الجنة من أجل كلب سقاه بعد أن رآه يلهث من شدة الحر فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، رضى الله عنه، قَالَ: «مَرَّ رَجُلٌ عَلَى كَلْبٍ مُضْطَجِعٍ عِنْدَ قَلِيبٍ قَدْ كَادَ أَنْ يَمُوتَ مِنَ الْعَطَشِ، فَلَمْ يَجِدْ مَا يَسْقِيهِ فِيهِ، فَنَزَعَ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ وَيَسْقِيهِ، فَحَاسَبَهُ اللَّهُ بِهِ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ»، وسَقْىُ كلب تسبب فى مغفرة ذنوب امرأة سيئة السمعة والسلوك، فعَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ، مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِىٍّ يَلْهَثُ، قَالَ: كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ المَاءِ، فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ».
ولما كان الكثير من الحيوان والطيور مأكول اللحم ويعتمد عليه الإنسان كغذاء له فقد بيّنت لنا شريعتنا ضوابط ملزمة لذبحها، لتقليل تألمِها أثناء عملية الذبح الضرورية لحل أكلها، وهذا الرقى فى التعامل مع الحيوان والرفق والتلطف به لا مزيد عليه، فنظرة شريعتنا للحيوان والطير كسائر مخلوقات الله يجب أن يكون التعامل معها وفق طبيعتها التى خلقها الله عليها، وأن علينا كعقلاء أن نحرص على تهيئة المناخ والظروف الملائمة لراحتها وقيامها بوظائفها التى خلقها الله من أجلها، والالتزام بالضوابط التى جاءت فى شريعتنا فى شأن التعامل مع هذه المخلوقات بما يكفل لها الحياة الملائمة لطبيعتها تمامًا.
ولكن بين الرفق بالحيوان وفق ضوابط الشرع وبين ما يمارسه بعض البشر من المبالغة فى هذا الرفق أو الانحراف عنه بون شاسع، فبعض الناس يؤذى الحيوان ويعذبه بطرق شتى غير مدرك أن هذا الفعل قد يكون سببًا فى دخوله النار، وأن هذا الحيوان لو أحسن إليه وترفق به قد يصلح بفعله هذا الكثير مما أفسده بأفعاله وسطر فى سجل سيئاته، كما أن فريقًا آخر من الناس يبالغ فى تدليل الحيوان بدعوى الرفق به حتى يفسد طبيعة خلقته التى خلقه الله عليها، فبعض الناس ممن يقتنون حيوانات أليفة كالقطط مثلًا يجعلون تناول القطط للطعام المعتاد لهذه المخلوقات ربما يكون مُنْهِيًا لحياتها، حيث إنهم يعودونها على أطعمة خاصة تعد خصيصًا وتباع فى محلات خاصة وبأسعار مرتفعة؛ ولذا لا تتمكن هذه الحيوانات من تناول الأطعمة المعتادة، والأدهى أنهم يتعاملون مع هذه الحيوانات تعاملًا يضر بصحتهم، فقد يصل الأمر بإحداهن إلى احتضان قطتها لتنام معها فى فراشها، فإذا أصبحت لا تكاد قطتها تفارق حجرها طوال يومها، ناهيك عن التقبيل المتبادل وهو أمر يعرف أهل الاختصاص مخاطره الصحيّة التى قد تصيب بالعديد من الأمراض الصعبة، وبعض الناس رجالًا ونساءً يألفون اقتناء الكلاب، وبين الناس جدل كبير يتعلق بالكلب، حيث إن الكلب يضاف إلى ما يشارك فيه الحيوانات الأخرى من التدليل المبالغ فيه والذى يفسد طبيعته؛ فهو لم يخلق ليقيم فى فندق خصص للكلاب كما سمعنا عنه فى دولة عربيّة، حيث خصصت فندقًا خمسة نجوم لإيداع الكلاب التى يسافر أصحابها يتمتعون بكل سبل الراحة فى غرف مكيفة بها جهاز تلفاز لتسليته بعرض أفلام حيوانات، ولا ليكون فى سيارات فارهة بجوار أصحابها لتنطلق فى الشوارع بين بشر يسيرون على أقدامهم أو يتعلقون بأبواب الباصات لشدة الزحام داخلها، وإنما خلق للخلاء والانطلاق والطوفان حول البيوت لحراستها أو الاستعانة به فى الصيد ونحو ذلك، والمبالغة فى تدليلها يخرجها عن طبيعتها التى خلقها الله عليها، ولا أعتقد أنها تحقق لها راحة أكثر أو تعادل الحياة التى هيئت فى خلقتها لتعيش فيها، ولا مانع من تحسين البيئة التى يعيش فيها الحيوان فنجنبها التعرض لحرارة الجو الزائدة أو برودته بتهيئة أماكن ظل جيدة التهوية أو مشمسة فى الشتاء، ولكنها لا يناسبها أن تحبس فى أماكن مغلقة مفصولة عن الخلاء والهواء الذى خلقت لتنطلق فيه، ولا مانع من الاهتمام بنظافتها ولكن لن تغضب كثيرًا إذا لم نذهب بها إلى كوافير خصص لقصات وتسريحات الكلاب، ومن الجيد الاهتمام بتغذيتها ولكن لن تتظاهر إذا لم تكن وجباتها من المطاعم التى اخترناها لها وأصبحت مفضلة لديها. وبدلا من تناول الناس إصلاح هذا الخلل فى التعامل مع الحيوان سواء أكان لرفع الإيذاء عنه أو المبالغة فى تدليله؛ فإن انشغال الناس فيما يتعلق بالكلب خاصة هو طهارته ونجاسته والربط بين هذا الحكم وبين حكم اقتناء الكلب، والذين يدافعون عن اقتناء الكلب ويردون على منتقديهم بأن الكلب طاهر ومن ثَمَّ لا مشكلة فى اقتنائه وحمله والاحتاك به.
والحقيقية أن نجاسة الكلب وطهارته محل خلاف بين الفقهاء، وهى ليست مرتبطة حتمًا باقتناء الكلاب، وهم على ثلاثة أقوال فيها، رأى يرى أنه طاهر كالغنم وغيرها من الحيوانات وهو رأى المالكية، ورأى يقابله وهو أنه نجس كالخنزير وهو رأى الحنابلة، ورأى توسط بين الرأيين فقال لعابه نجس وجسده طاهر وهو رأى الحنفيّة والشافعيّة، ولكل رأى أدلته، وهذا الخلاف ليس فيه ثَمَّةَ مشكلة، حيث يجوز الأخذ بأى رأى منها حسبما يناسب حال الشخص الباحث عن حكم نجاسة الكلب أو طهارته، فمن أراد التحوط اعتبره نجسًا، ومن كثر احتكاكه بالكلب كالجنود الذين يستخدمون الكلاب للمساعدة فى كشف المخدرات والمفرقعات وأدوات الجرائم، يناسبهم القول بطهارته، ومن يستخدمونه للحراسة يمكنهم الاحتراز عن لعابه واعتبار جسده طاهرًا، ومن لا علاقة له بالكلاب ولا يعايشها كغالب سكان المدن من الأولى لهم تجنبه خروجًا من الخلاف.
وهذا الخلاف الوارد فى طهارة الكلب ونجاسته يتعلق بالضرورة بصلاة الإنسان وطهارة بدنه وثيابه، ولا يمنع اقتناء الكلب للحراسة والصيد عند الفقهاء بل هو جائز، أما إذا لم يكن لقصد الحراسة أو الصيد فبينهم خلاف حول الاقتناء، وكذلك منعوا بيع وشراء الكلاب ما لم يكن للغرض الذى أجازوا اقتناءه له وهو الحراسة أو الصيد؛ حيث أجاز بعضهم الشراء لهذا الغرض فقط، ولكنهم لم يتناولوا ولم يخطر ببالهم عقد أسواق وتخصيص محلات لبيعها بآلاف الجنيهات.
وعلى كل حال فإن مجمل الوارد عن الفقهاء السابق عرضه لم يمنع اقتناء الكلب كما جاز بيعه وشراؤه فى بعض الأحوال، ولكن لم يرد عن الفقهاء ولا غيرهم هذا التجاوز بالإيذاء لهذا المخلوق أو غيره، ولم يتصوروا هذا التجاوز الذى نعلمه ونسمع عنه فى التدليل الزائد لهذه الحيوانات بدعوى الرفق بها، وقواعد شرعنا ليست فى صالحه، لما فيه من إتلاف المال وإفساد طبيعة الحيوان، وتعريض صحة الناس للخطر الذى يكون جسيمًا أحيانًا، فنعم للرفق بالحيوان دون إفساده، ولا وألف لا لتعذيبه أو إيذائه، وخير الأمور أوسطها.