على ضفاف النيل الهادئ، نمت الشخصية المصرية القديمة، سمحة مسالمة كما علمتها الزراعة، حرفتها الأولى. شخصية وديعة مسالمة، تبدع فنًا راقيًا، وفكرًا مُلهمًا، هو الأول فى سجلات المسيرة الإنسانية الممتدة عبر آلاف السنين.
ومن ثم كانت الأنشطة العسكرية قليلة إلى حد كبير فى عصر الدولة القديمة (تقريبًا ما بين عامى 2686ـ2181 ق.م). من هنا، كان التطور الحضارى سريعًا، فكانت أول حكومة مركزية، ومعها طرق إدارة مميزة، يقابلها شعب مُبدع سجل حضارته بفنونه وكتابته الهيروغليفية المتطورة، فبقيت إلى الآن شاهدًا على حضارة راقية نبتت وسط وحشة أعماق التاريخ.
غير أن تهديدًا مباغتًا تعرضت له الدولة المصرية؛ فمن حدودنا الشرقية شن البدو غارات على مناطق فى الدلتا، فكانت شرارة البدء فى تشكيل أول جيش نظامى مصرى قوامه عشرات الآلاف من المجندين، ثم كانت الحرب الأهلية، وما شهدته من فُرقة بين أبناء الوطن الواحد، أدت إلى صراعات مسلحة بين الأقاليم المصرية، انتهت بجهود "المؤسسة العسكرية" إلى عودة الوحدة المصرية، وأفول نجم الدولة القديمة، وبزوغ الدولة الوسطى، وقد دخلته الدولة المصرية وقد عرفت العسكرية الوطنية، كأعرق جيش فى التاريخ.
"الدولة" إذن، حمايتها وصون كرامتها، ليس إلا هى منشأ المؤسسة العسكرية الوطنية، وقيم المجتمع المصرى القديم، السمحة النبيلة، ليس إلا هى، جوهر العقيدة العسكرية الوطنية.
والواقع أن العقيدة العسكرية، وهى مصطلح عسكرى بالطبع، إلا أنها خلاصة القيم المجتمعية الراسخة، مثلما هى نتاج شرعى لمجموعة القواعد والمبادئ الموضوعية والجيوسياسية؛ ومن ثم فهى أيضًا رؤية "الدولة" ككل، من جهة لتحدياتها ومخاطرها المحيطة بها، ومقتضيات أمنها وسلامة أراضيها وسيادة قرارها، ومن جهة أخرى لما يلوح أمامها من فرص للرقي، وسُبل تحقيق رفاهية الشعب، وأدواتها لدفع جهود التنمية المستدامة حرصًا على حقوق الأجيال المقبلة.
يشير إلى ذلك كون العقيدة العسكرية ذات جوانب متعددة، لعل أهمها، الجانب السياسى، فيما يعبر عن الإستراتيجية الوطنية الحاكمة لتوجهات الدولة، وما يعتنقه نظامها السياسى من قيم ديمقراطية، بموجبها تتحدد أغراض الحرب ودواعيها، وسُبل الاستعداد لها، ومواجهة تبعاتها. وهنا نجد أن المؤسسة العسكرية الوطنية، لم تكن يومًا لتمتد أبعد من حدود الأمن القومى للوطن، مع ملاحظة أن الأخيرة تتسع لما هو أبعد من حدودنا الجغرافية. وعليه، كان الأمن القومى العربى المظلة الأوسع التى لم تبرحها مؤسستنا العسكرية يومًا.
وفى العقيدة العسكرية أيضًا جانب تقني يشير إلى القدرات التسليحية، سواء ما يتعلق منها بالتصنيع العسكرى، أو بالقدرة على اقتناء السلاح المتطور المتنوع بما يضمن تفوقًا، أو على أقل تقدير توازنًا يحقق الردع المطلوب، ويحفظ استقرار الوطن. والأمر هنا يتوقف كثيرًا أمام رؤية النظام السياسى، والإمكانات المادية والفنية المتاحة؛ فنجد أن الفترة الأخيرة، وتحديدًا منذ تولى الرئيس السيسى مقاليد السلطة، مالت المؤسسة العسكرية بقوة نحو تنويع مصادر السلاح والانفتاح على مدارس عسكرية عتيدة، فحصلت مصر على أسلحة متطورة أثرت كثيرًا فى رفع كفاءة قواتنا المسلحة، ونلاحظ فى هذا الخصوص أن القدرات التسليحية الجديدة طالت كل الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة، فيما يعبر عن إستراتيجية واضحة، ورؤية موضوعية شاملة ومدروسة.
ثم نأتى إلى الجانب العسكرى، فى العقيدة العسكرية، وهو أيضًا يتوقف كثيرًا على رؤية النظام السياسى، وما تمتلكه الدولة، ومؤسستها العسكرية من إمكانات مادية وفنية. وفى إطار العقيدة العسكرية، نجد العقيدة القتالية، بما تعنيه من انتهاج لأساليب وتكتيكات تنصب على تدمير القوة المسلحة للجانب المعادى، دون إهدار لما يعتنقه المجتمع من ميراث متواصل من شرف القتال، فلم يُعرف عن مؤسستنا العسكرية ما يفصلها عن مخزونها القيمى والحضارى.
ولما كانت السياسة ليست إلا وجهًا من أوجه الحرب، ولكن بوسائل أخرى، مثلما الحرب صورة من صور السياسة، يجمعهما المصالح العليا للوطن. فإن مؤسسة عسكرية وطنية نشأت أساساً بهدف الحفاظ على حضارة شعب وحماية استقرار "الدولة"، لا سبيل إلى قياسها زيفًا على جيوش تأسست على طائفية، أو غيرها نمت طمعًا فى مقدرات ما حولها من شعوب، أو لضم أمم مسالمة إلى حظيرتها الاستعمارية. ومن ثم لا جدوى من محاولات فصل مؤسسة عسكرية، الدولة جوهر عقيدتها، عن كل جهد وطنى يستهدف تنمية شاملة ومستدامة، بكل مضامينها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.