نظر الصحفى المصرى صعيدى الأصل الذى يكتب فى إحدى الصحف اللندنية إلى صديقه الصحفى الآخر قائلا: انظر خلفك، هذه «خالتك تاتشر» تشترى الخضار والفاكهة وتحمله بنفسها من سوق لندن، ألا تعلم أنها تصر على أن تطبخ بنفسها لزوجها، وهى المرأة الحديدية ورئيسة وزراء بريطانيا، هل يمكن أن ترى وزيرا فى بلاد العرب يفعل ذلك؟
تذكرت قصة هذا الصحفى وقصة فوز صادق خان فى انتخابات بلدية لندن، وهو المسلم البريطانى ذو البشرة الداكنة، الذى ينحدر من أسرة فقيرة جدًّا، حيث كان أبوه يعمل سائقًا لأتوبيسات النقل العام بلندن، وأمه كانت تعمل خياطة، وكافح هو شخصيا كثيرًا ليساند أسرته التى تتكون من ثمانية أبناء.
فاز صادق الذى ينحدر من أصول باكستانية على منافسه الملياردير الأبيض البريطانى الأصل الذى ينحدر من أغنى الأسر اللندنية ويصاهر كذلك أغناها، وفى أول يوم لعمدة لندن الجديد وقف خان وحيدًا على محطة الباص العام ينتظر الباص الذى لا يخطئ موعده لحظة، ليس معه حراس ولا مساعدون، ولم يجتمع الجمهور أو الصحفيون حوله، بل يقف وحده بتواضع شديد، أما لدينا فالوزير لا تراه ولا تستطيع مقابلته ولا يعرف الناس كيف ولماذا وصل إلى منصبه ولماذا عزل منه؟ والوزير عندنا يفقد نصف عقله حينما يجلس على كرسيه ويفقد النصف الآخر حين يعزل منه ولا يدرى لماذا عُيّن ولا لماذا عُزل؟!
تحية للناخب اللندنى الذى لم يتأثر بالعمليات الإرهابية التى حدثت فى فرنسا وبلجيكا، ولم يخلط بين الإسلام والإرهاب، أو بين المسلم العادى والإرهابى، أو بين داعش وبقية المسلمين، لقد رأى الناخب اللندنى أن خان أفضل له من جولد سميث، فقد قدم له صادق خان نموذجا حقيقيا وصحيحا للمسلم المحب للناس جميعا، وهذا هو الفرق بين «داعش» وصادق، فـ«داعش» تبغّض الناس فى الإسلام، وصادق يحببهم فى الإسلام، هو نفس الفرق بين محمد رشوان، بطل الجودو المصرى، و«داعش» التى قتلت الصحفيين اليابانيين الذين لا يعادون أحدا، رشوان حبب اليابانيين فى الإسلام، و«داعش» تبغضهم فى الِإسلام، الناخب اللندنى له وعى وعلم وفهم، ليس غوغائيا تؤثر فيه الدعايات السوداء ولا يحب تصنيف الناس من ساعة ولادتهم.
الديمقراطية الصحيحة والتعددية الحقيقية هى التى أنتجت مثل هذا العمدة، لو كانت هناك طائفية وشك أو طعن أو تخوين للآخر لما صعد مثل هذا العمدة، لقد صعد فى مجتمع يقدم الكفاءة على الولاء، يقدم القوى الأمين على المنافق الذى يمدح أسياده ليصل إلى المنصب.
قوة المجتمع البريطانى هى التى جعلت مثل هذا المهاجر يتعلم تعليمًا جيدًا، ويأخذ فرصًا متساوية، ويصل إلى أعلى المناصب، ويترشح أمام البريطانى الأبيض الذى ينحدر من أسرة بريطانية عريقة دون خوف أو وجل أو تصنيف من الإعلام الفاسد.. معيار التقدم فى المجتمعات القوية هو الكفاءة والدقة والأمانة وليس النفاق.
فى أحد التدريبات التى أقيمت مؤخرًا للوقوف على جاهزية مؤسسات لندن لمواجهة الإرهاب، تقمص البعض دور الإرهابيين، وإذا ببعضهم يهتف «الله أكبر» وهو يهاجم المؤسسة، مما جعل المسلمين البريطانيين يمتعضون من ربط كلمة «الله أكبر» بالإرهاب، وإذا بأرفع المسؤولين البريطانيين يعتذر عن هذه الإساءة غير المقصودة مع معاقبة فاعليها.
هؤلاء يحترمون مشاعر الأقليات فى شعوبهم، ويحترمون أديان الآخرين وعقائدهم، حتى وإن اختلفوا معها، فهل نتعلم الدرس من لندن؟ لو كان خان فى دولة عربية ما تعلم تعليما جيدا، ولا كانت له همة ولا رغبة فى دخول المعترك السياسى المغلق دائما أمام الأكثرية، ومفتوح فقط لنخب معينة ضيقة وقليلة.. تحية للديمقراطية الحقيقية، وتحية للتسامح مع الآخر وقبوله.