كثيرًا ما أرى أننا كـ«مصريين» لدينا قناعة كبيرة بأن كلمة «لا أعلم» هى كلمة عيب أو حرام، أو أنها تسبب العدوى لأشد الأمراض فتكًا، أو أنها كلمة مسحورة من ينطقها يُصَب باللعنات، ففى مصر تنتحر التخصصات، ويذهب أهل الخبرة إلى سوق النفايات، فجميعنا لدينا خبرة فى «جميعنا» نؤلف أى شىء فى أى وقت، نتكلم بلهجة العالم ببواطن الأمور فى كل الأمور، علماء فى الطب، خبراء الذرة فقهاء فى الدين، مديرون فنيون فى كرة القدم، علماء فى علم الفلك وحركة الكواكب، ما أن تسأل مصريا عن شىء حتى يتفرس فى وجهك ويرفع حاجبًا ويخفض آخر، ثم يتنهد مخرجًا الزفير من أنفه وفمه معًا ثم ينطلق: أقولك أنا بقى، وإن رأيت تلك الصفات فى أى شخص فاعلم أنك ستتلقى فتوى كبيرة من الحجم العائلى، وفى الغالب فإن يومك سيضيع بعد هذه الفتوى إن لم يضع مستقبلك.
نعم، نحن نفتى بغير علم فى كل الأمور، والشخصية الأسطورية التى نطمح جميعًا فى الوصول إليها هى شخصية «الواد الخلاصة» الذى يفهم فى كل شىء ويعرف كل شىء عن أى شىء، وربما يكون هذا الأمر مقبولاً فى الأوقات العادية، لكن حينما تكون تلك الأمور متعلقة بأرواح بشر وعلاقات دول وتخصصات دقيقة، فإن هذا «الفتى» يصبح كارثة، بل جريمة يجب أن يعاقب عليها كل من يرتكبها، وهو الأمر الذى وضح جليا فى أزمة سقوط الطائرة المصرية القادمة من باريس التى تشير الدلائل إلى أنها سقطت بالقرب من اليونان، وللأسف فإن هذه الأزمة تحولت إلى سوق رائجة من الفتاوى الجاهلة، والكل يفتى بغير علم، سواء من يرتدى ثوب المعارضة والثورية أو من يرتدى ثوب الحمية الوطنية، وهم فى النهاية مجموعة من الفشلة غير القادرين على التفكير بشكل علمى فى أى شىء حتى لو كان هذا «الشىء» سيتعلق بمصير وطن ومستقبل بشر.
الواد الخلاصة يفتى منجعصا «الحكاية فيها إن»، بينما خلاصة آخر يقر: «رائحة المؤامرة فى كل مكان»، وخلاصة ثالث يزعم «فتش عن إسرائيل يا أستاذ»، وخلاصة رابع يؤكد: «عطل فنى فى المحركات الحلزونية أدى لاشتعال فتيل الفنطاس فأسقط الطائرة»، وخلاصة خاصة يقرر: «الأيادى الخفية فى البحار العلوية زرعت الملوخية، وأسقطت الشاب والصبية»، وهكذا يمضى «الواد الخلاصة» المنتشر فى كل ربوع مصر يحلل ويقرر ويحزر ويفزر، ويستنتج شاغلا الرأى العام بتناقضاته وتحليلاته المتهاوية.
1 + 1 = 2، هذه حقيقة وليست اختراعا، ومعلومة + معلومة = خبر، هذه أيضا حقيقة وليست اختراعا، وماعدا هذا فإنه والعدم سواء، ومادام لا أحد يمتلك معلومة واحدة عن سبب سقوط الطائرة، فلماذا نستهلك المجتمع فى ما لا ينفع ولا يشفى سؤالا؟ ولماذا فى كل أزمة نعيد اختراع العجلة، ونعيد التأكيد على المسلمات مرة ومرة ومرة، دون أن يفهم أحد شيئًا أو يعى ما يقول؟