لا يخفى على أحد تفاقم أزمة كورونا، فبعد أن ظنَّ كثير من الناس قرب رحيلها، فإذا هى تضرب بقوة أكثر من قوة هجمتها الأولى، فلا أحد منا إلا ويعرف عددا من الأشخاص قد ودَّعوا دنيانا ورحلوا إلى العالم الآخر بآجالهم بعد إصابتهم بالفيروس اللعين، ويعرف آخرون يرقدون على فراش المرض فى المستشفيات أو بيوتهم يقاومون الفيروس الذى استوطن أجسادهم يسرح ويمرح بين أجهزته تاركا خسائر متفاوتة فى كلِّ جهاز يصل إليه، بينما يبقى بقيَّة الناس لا يعرفون متى يزورهم هذا الضيف الثقيل الذى لا يتمنون زيارته، ولكن الرغبة وعدمها لا علاقة لها فى حدوث الزيارة إن قررها هذا الضيف اللعين.
وبعد تفاقم مخاطر هذا الفيروس حتى أصبح جميع الناس أهدافا محتملة لمداهمته، أصبح على الناس جميعا على اختلاف أماكنهم وأعمارهم أن يتخذوا فورا ودون إبطاء قرارات سلوكيَّة كان عليهم اتخاذها منذ ظهور هذا الطاعون على الأرض، وليحمدوا الله أن حفظ عليهم صحتهم رغم تفريطهم وتقصيرهم حتى الآن، وأول هذه القرارات هو: تصحيح ثقافتنا فى التعامل مع الجائحة وعدم اعتبارها شرا محضا حيث يمكننا كمؤمنين الاستفادة منها والتخفيف عن أنفسنا باعتبارها دليل محبة من الله لعباده المؤمنين به حيث يقول رسولنا الأكرم: «إذا أحبَّ الله قوما ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع»، و«مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا»، وحين سألته أم المؤمنين عَائِشَةَ عن الطاعون، أَخْبَرَهَا: «أَنَّهُ كَانَ عَذَابا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِى بَلَدِهِ صَابِرا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ».
كما تلزمنا الاستجابة وعدم التبرم من إجراءات الحجر الصحى للقادمين من السفر، فرسولنا هو من شرع الحجر الصحى قبل النظم المعاصرة فقد قال عن الطاعون: «إِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ فَوَقَعَ بِهَا، فَلَا تَخْرُجْ مِنْهَا، وَإِذَا بَلَغَكَ أَنَّهُ بِأَرْضٍ، فَلَا تَدْخُلْهَا»، ولذا يلزمنا تنفيذ كل التعليمات الواردة والمعلنة عن جهات الاختصاص الصحى والتنفيذى، وأهمها اتخاذ وسائل الوقاية كالكمامات والتباعد والحفاظ على النظافة والتطهير بالمطهرات الموصى بها، كما أنه آن الأوان للتخلى عن ثقافة التلاصق للترحيب وإظهار الود عن طريق العناق والقبلات، وحتى المصافحة بالأيدى، فالمصافحة فى الأصل مشروعة بين النوع الواحد من الناس رجالا أو نساء، ففى صحيح البخارى: «عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَكَانَتِ المُصَافَحَةُ فِى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ».
أمَّا المعانقة والتقبيل فهما محل خلاف بين العلماء وكثير منهم كرههما ففى أسنى المطالب للشافعية: «وَتُكْرَهُ الْمُعَانَقَةُ وَالتَّقْبِيلُ فِى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَلَوْ كَانَ الْمُقَبِّلُ أَوْ الْمُقَبَّلُ صَالِحا»، وفى سنن الترمذى: «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِى لَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَيَلْزَمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» .
ومع هذا الخلاف الوارد فى العناق والتقبيل إلا أنَّه لا يمكن القول بتحريمهما، وإنَّما غايته الكراهة عند فريق بينما لم يكره آخرون، وهو ما يعنى الجواز لكلَّ من المصافحة والعناق والتقبيل فى الظروف العادية، ولكن فى خضم معركتنا مع فيروس كورونا، وحيث يجمع خبراء الصحة على إمكانية نقل العدوى من خلال الملامسة، ومع علمنا بأنَّ الفتوى تتغير بتغير الأحوال، فإنَّ الملامسة بجميع أنواعها من الأوفق لقواعد شرعنا الذى نفى الضرر والضرار تقتضى أن نغيِّر ثقافتنا فى التعامل مع كل هذه الصور الجائزة فى الظروف العادية، فلم يقل أحد بوجوب شىء منها بل غاية ما ذكره علماء السلف وتقتضيه النصوص هو الجواز، وحين يكون هذا الجائز مكمن خطر فإنَّ حكمه يتغير من الإباحة للحظر حتى يزول خطره فيعود مباحا، فيكون من الجيد التخلى عن هذه العادات المتعلقة بالمصافحة والمعانقة، لنتحول إلى الترحيب المجمع عليه وهو إلقاء السلام القولى وهو قول المرء لأخيه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولا بأس من عبارات ترحيب أخرى كالسؤال عن الأحوال والصحة والأهل، فهو كافٍ فى إظهار الود، ولا ضرورة أو حاجة لهذه الصور من التلامس والتقارب، لا سيما أن خبراء الصحة يطالبون بالتباعد الاجتماعى.
ومن وجهة نظرى، وفى ظل اتساع دائرة الأمراض المعدية وانتقالها عن طريق التلامس أتمنى أن نتخلى عن المصافحة والمعانقة بشكل نهائى حتى بعد زوال جائحة كورونا، وما ينبغى التنبيه عليه فى هذا الإطار هو ضرورة تخلى الناس عن إحراج غيرهم حيث يبادرون بمد أيديهم لمصافحتهم وربما لعناقهم، ما يضطر الآخر للتجاوب معه على مضض وكراهية منه، وهنا نقع فى مخالفة المقصود من الترحيب، حيث يتحول إلى باب من أبواب ضيق النفس والكراهة، وربما النفور من لقاء هذا الذى يفرض على الآخر مصافحته أو عناقه، وهو ضرر نفاه شرعنا بقاعدة شرعيّة: «لا ضرر ولا ضرار».
كما يلزمنا ترك بعض الأمور بشكل مؤقت كالحفلات الجمعية، وقصر حفلات الزواج وغيرها على الأهل المقربين، وكذلك تشييع الموتى ودفنهم وإن لم يكن موتهم بسبب كورونا، إلى أن تزول الجائحة، كما أن من أصيب بالمرض يحرم عليه حرمانا إخفاء مرضه ومخالطة الناس، بل يجيب عليه اعتزالهم، فإن كان موظفا لزمه إبلاغ جهة عمله للحصول على إجازة، فإن خالط الناس فأصاب بعضهم فهو آثم شرعا ويتحمل إثم إصابة غيره وما يترتب عليها من مضاعفات باعتباره معتديا عليه.
وفى الختام، فالعاقل من اعتبر بالجائحة وراجع نفسه وسلوكياته وعلاقته بخالقه وبالناس، فمع أن الموت يتربص بنا، بكورونا ومن دونها، وأن عقيدة المؤمن أنه إذا أمسى فلا ينتظر الصباح وإذا أصبح فلا ينتظر المساء، وأن الحياة نفس قد يدخل فلا يخرج، وقد يخرج فلا يعود، إلا أنه فى ظل الجائحة أقرب إلينا من حبل الوريد، وأن العاقل من أعد نفسه للوقوف بين يدى الله قبل فوات الأوان.
ولا يعنى هذا وضع أيادينا على خدودنا انتظارا للإصابة أو الموت، فمنهج شرعنا اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأن تموت غدا، وأنَّ الساعة لو قامت وفى يد أحدنا فسيلة فليغرسها، ومن الوفاء والعرفان الإقرار بالجميل وحسن الصنيع وتقدم الشكر والتقدير للجهود المبذولة للحد من آثار الجائحة وخاصة إلى جيشنا الأبيض الذى يجابه المرض فى الميدان، يحمل أفراده أرواحهم على أكفهم فداء لأهلهم وقياما بواجبهم، سائلين المولى أن يتقبل شهداءهم فى شهداء المواجهات المسلحة لأعداء الوطن من البشر، وأن يعوض أسرهم عنهم خيرا، وأن يحفظ من يعملون فى الميدان، وأن يشفى المصابين منهم، حفظكم الله وإيانا من كل سوء ومكروه، ورفع البلاء، ونشر الصحة والعافية على الجميع.